قديماً قيل إن (الإسقاطَ) حيلةٌ نفسية يوظفها بعض ضعاف الوجدان للقفز على أخطائهم، تبريراً أو تمريراً أو هروباً من وزر الخطأ! ولا يقتصرُ فعلُ هذه الحيلة على فردٍ أو جماعة، أو حتى أمة أو نظام، الكلُّ يجدُ فيها متنفَّساً مِمّا يؤرقه، (فيجيّرَه) إلى من يروم فيه خلاصاً من الأرق وعِتْقاً، مُوهِماً نفسه أن الآخرين بلغُوا من الغفلة أو السذاجة حدّاً يحملهم على (تصديق) ما زعم هو أنه حق وصدق، ذبًّا للأذىَ عن ذاتِه و(براءةً) منه وليبقى بعد ذلك خارجَ أسوار الحساب والعقاب!
وقد اتخذت فتنةُ (الإسقاط) مؤخَّراً منحًى آخرَ، خاصة في قواميِس ونواميِس بعض الأمم، فألبسُوه ثوباً مطرزاً بالزور اسمه (المؤامرة)، وبتْنا، نتيجةً لذلك، نسمع عن (نظرية المؤامرة) أو (ثقافة المؤامرة)، وأيان كانت التسميةُ أو المسمَّى، تَظلُّ الغايةُ واحدةً، كما بدأت، وهي درْءُ النفس عن تهمة الخطأ، فشلاً كان أو تقصيراً أو تدبيراً بليل أو نهار، كي يَزرَ البريءُ وزرَ سواه وإليكم بعض الأمثال:
فهذا موظفٌ فاشلٌ يعلَّل محنتَه تارةً بسُوء إدارة رئيسه، وأُخْرى بغياب التَّعاونِ بين زمَلاءِ العمل، وثالثةً بضَائقةِ العَيْشِ وكثرةِ (العيال) أو أزمة الانتقالِ إلى مقرَّ عمَله ومنه، ونحو ذلك!
وهذه زوجة تنْعى سعادتَها بسبب الأقارب أو الجيران أو كثافة غياب زوجها عن المنزل! وقد تلومُ (الأقمار الصناعية) لأنها اختطفت انتَباهَ زوجها بصنُوفِ البثَّ المباشرِ وغيرِ المباشرِ، فلم يعد يعيرها اهتَماماً ولا وْزناً! وقد تُحمِّل الوزرَ (الاستَراحاتِ) التي يغشَاها الزوجُ، مُحمَّلةً إياها سبَبَ تعاستها!
وهذا طالب يعزُو فشله في الامتحان إلى قسوة الأسئلة أو قصور المدرَّس أو تلوُّث المناخ الأسري داخل المنزل، خُلْفاً وخصاماً، وغير ذلك من الأَوزَار!
وإذا كان هذا حالُ بعَضِ الأفْرادِ، فإنّ هناك أُمَماً ونظماً سياسيةً أسوأَ حَالاً، فبعضُ النظم تبَّرر تعثُّرَ برامج تنمية الإنسان فيها.. أو غيابَ الأمن والاستقرار لشعوبها (لتُسقِطَه) على منظومة (الفكر التآمري) القادم إليها من خارج الحدود، وقد تتَّخِذُ من هذا الفكر غطاءً (واقِياً) يستُر عوراتِها، فتُحمّلَه أوزارَها، لتبقى هي أبداً بمنأى عن الحساب والعتاب، بل قد توظَّفُ شماعةَ (العدو الخارجي) بمناسبة وبدونها لاستدرار عطفِ أو تعاطفِ الجماهير البريئةِ المغلوبةِ على أمرها.. ولتمرَّرَ من خلال هذا العطفِ المزيدَ من الأوزار والآثام !!
هنا يقف المرء مثلي مُتسَائلاً:
متى نصحُو من سُبات الغفلة، أفراداً وجماعات وأمماً، فنواجهَ أخطاءنَا ببأسٍ يْقتلعُ (غُول) الإسقاط المريض في أعماقنا؟!
متى نصارحُ أفئدتَنا بما فَعلنا، ونَلتمسُ الحلولَ للظهور على أخْطائِنا بدَلاً من تمْريرِها إلى الغير؟!
متى يستيقظُ في أعمَاقِنا الإحسَاسُ بأنّنا في معظم المواقف والأحوال مسئوُلون عن أخطائنا.. فنواجِههَا تقويماً وتصويباً، كيْلا تقعَ كرةً أخرى؟!
وبعد..
لو كان كلّ منا، مسلمين وعرباً، موضوعياً مع نفسه قبل الغير.. وخصْماً وحَكَماً لنفسه وعليها.. قبل الغير، لكان لنا شأنٌ آخر بين العالمين، ولكنَّا قوماً.. يصْطفيهُم الآخرُون قدوةً، ويُحاكونُهم مثَلاً!
