احتقان بالإنترنت.. منصة انطلاقه تويتر الذي تحول إلى محرقة للبعض، ونجومية للبعض، وملهاة لكثيرين.. فتن طائفية مستطيرة (سنة/ شيعة)، وأخرى فكرية (سلفية/ ليبرالية)، وثالثة سياسية مع أو ضد “الربيع العربي”..

يستحوذ فيها متطرفو كل فئة على المشهد.. مدعين امتلاك الحقيقة، وويل لمن يختلف معهم!

ملهاة مأساة تنتقل عدواها إلى مقالات الصحف، ويتحول الحوار إلى مشاحنة وتصيد واجتزاء النصوص من سياقها وتأويلها حسب الانفعال.. حوار يبدأ بشتائم وينتهي بتخوين بين زملاء في الصحافة أو الثقافة. وفي ظل هذا الاحتقان ظهر فريق انتهازي من كتاب كاد يطويهم النسيان بسبب مقالاتهم الركيكة.. كتاب لا علاقة لهم بهذا الخلاف، لكنهم وجدوها فرصة للفت الانتباه عن طريق قذاعة اللفظ واتهام الآخرين، حتى أنك قلما تجداً مقال لهذا الفريق لا يتضمن عبارات من نوع: طابور خامس، عملاء، خونة..الخ.

أين مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني ليشارك في إدارة الخلاف ويخفف من الاحتقان؟ هل هو نائم رغم صخب الضجيج وكأن شيئاً لم يكن.. إنه شبه غائب عن الحوار وعن مناقشة أسباب الاحتقان سواء من ناحية تأثير الربيع العربي، أو انفلات الحوار في الإنترنت، أو تطرف بعض الكتاب. هذا لا يعني أن المركز لا يقوم بعمل كبير، بل يقوم بجهد دؤوب، إنما أغلبه ابتعد عن الدور الرئيس للحوار الوطني، وذهب إلى أدوار أخرى ليست من صميم عمله أو أنها أعمال أقل أولوية في ترتيب أهدافه، كالتوعية بأهمية الحوار في القضايا الخدمية، وحل سوء الفهم المتبادل بين المسؤول والمواطن. بل إن عمله امتد إلى العمق الداخلي من خلال الأسرة وحل المشكلات الزوجية عن طريق الحوار.. وامتد، أيضاً، إلى الأفق الخارجي في المشاركة في حوار الحضارات..

كلها أعمال عظيمة الأهمية وربما أهم من الحوار الوطني، لكنها بعيدة عن الأهداف الرئيسة للمركز. ويبدو أن ما جعل المركز يحيد عن أهدافه هو رغبة الأغلبية.. ففي تصويت سابق بموقع المركز بالإنترنت حول أولوية التركيز على مواضيع في القضايا: الفكرية، الخدمية، السياسية، الاقتصادية.. كانت النسبة: 42% للخدمية، 40% للفكرية، 10% للاقتصادية، 8% للسياسية. وبذلك تحصل القضايا الخدمية على الأولوية! إلا أن هذه النتائج يمكن أن تؤخذ كاستطلاع للرأي وليس كاستفتاء، فليس من حق الأغلبية تغيير دور جهة ما عن عملها الرئيس، مثل أن الأغلبية الرياضية العاشقة للعبة القدم ليس من حقها أن تغيير عمل اتحاد كرة السلة إلى كرة قدم..

المركز بإدارة الأستاذ القدير فيصل بن معمر كانت على وعي بذلك ولم تغفل عن خفوت دورها، لذا هي تجتمع بين فترة وأخرى مع المهتمين لمناقشة سبل تطوير عمل المركز، ومنها ورشة العمل التقويمية لمسيرة المركز التي أقيمت الأربعاء قبل الماضي ودعت مجموعة من الكتاب والكاتبات لمناقشة ثلاثة محاور، هي تقييم واقع الحوار الوطني، واستشراف مستقبل هذا الحوار، ثم الآليات المقترحة لتطوير اللقاءات الوطنية..

وكان الدكتور فهد السلطان نائب مدير المركز قد عرض بطريقة منهجية وموضوعية أهم الانتقادات الموجهة لعمل المركز، وهي باختصار: تقليدية العمل، والقصور الإعلامي في التعريف بالمركز، وعدم الاستفادة من نتائج الحوارات في مسار الإصلاح، وعدم التعاون مع القطاعات الأخرى، وتركز العمل على القضايا الخدمية وليس الفكرية، وعدم مناقشة القضايا المختلف عليها، وضرورة التوسع في الحوار الإلكتروني.. الخ.

أعتقد أن أهم نقطة جدلية تتناولها الانتقادات هي بين فريق يرى وجوب التركيز على القضايا الفكرية الخلافية بدلاً من التركيز على القضايا الخدمية المتفق عليها سلفاً، فيما يرى فريق أن يبتعد المركز عن قضايا النخبة المثقفة وخلافاتها والتوجه للناس بالقضايا الخدمية. ورغم أن أهداف المركز تنصب في القضايا الفكرية فهذه مهمة الحوار الوطني أساساً، فإنه يمكن التوفيق بين القضايا الخدمية والفكرية حلاً لهذه المعضلة التي دامت لسنوات.

إذ يمكن لإدارة المركز أن تجمع بينهما في موضوع واحد وفقاً لآلية مناسبة، بحيث تكون الجلسات الرئيسة للجانب الفكري في هذا الموضوع، والجلسات الفرعية للجانب الخدمي. مثلاً في لقاء “مجالات العمل والتوظيف” وهي قضية خدمية، كان يمكن أن يتم التركيز على المسألة الفكرية الخلافية داخل هذه القضية الخدمية مثل: الفساد والبطالة وعلاقتهما بالتطرف، وقضايا حقوق الإنسان والعمال والموظفين، وقضايا المساواة وعمل المرأة.. أما المسائل التقنية المتفق عليها مثل التي قدمت في ذلك اللقاء وهي: دور القطاع الخاص في الأمن الوظيفي، أهمية التدريب المهني في خفض البطالة، رفع مستوى مخرجات التعليم... الخ، فيحدد لها جلسات فرعية، ولا تخلط مع المسائل الفكرية في الندوات نفسها، لكي لا تفقد المواضيع تركيزها..

أما من ناحية الآليات التنفيذية فسأركز على المشاركة، حيث تعتمد اللقاءات السنوية الكبرى على جمع عدد كبير من الكتاب والكاتبات يصل لنحو سبعين مشاركاً في قاعة واحدة وتمنح لكل منهم مدة ثلاث دقائق فقط، لا تكفي إلا للتعبير عن فكرة عامة فضفاضة. هذه الآلية اقترح تغييرها إلى وضع جلسات عديدة في قاعات مختلفة بحيث يمنح المشارك فترة كافية لطرح عرضه أو دراسته. وهنا ينبغي التخفيف من المجاملات التي تجمع أكبر قدر ممكن من المشاركين، والاستعاضة عنها بالتركيز على من لديهم دراسات جادة ومركزة، مع منح فرصة لأولئك الذين يريدون التحدث بأفكار عامة غير مركزة تكون في قاعات أخرى.

أما اللقاءات الفرعية فيمكن أن تخصص للقضايا المستجدة وتكون استجابة سريعة لما يظهر من احتقانات فكرية وطائفية وسياسية منفلتة في الإنترنت، بحيث تعمل كـ”إطفاء للحرائق” التي يصطنعها متطرفو كل فئة كما هو حاصل حالياً. وهنا يأتي دور المركز في ضرورة دخوله في الحوار الإلكتروني بين الأطراف المتنازعة، وإدارتها بطريقة عقلانية هادئة تحجم انفلات الغوغائية التي يزخر بها الإنترنت..

عندما غاب مركز الحوار الوطني عن المشاركة في الحوارات الساخنة، غاب الإعلام عنه، وفقد المركز بريقه الذي توهج في سنواته الأولى.. فإذا كان من الضروري أن يعود المركز لما تألق به في طرح القضايا الخلافية، فمن من المهم أن تعرض اللقاءات في التلفزيون كما كان في السابق، مع حضور الصحفيين لدعم الانتشار الإعلامي لهذه اللقاءات.