قال لي أحد الأصدقاء الذين أَعتزُّ بصداقتهم: ما لك واليت الكتابة في مقالاتك الأخيرة عن اللغة العربية وأنت الذي كانت دراساتك الجامعية وما بعدها في حقل التاريخ؟ قلت: إني أحب لغتي كلَّ الحب، وأعشقها غاية العشق؛ شعراً ونثراً. ولو لا هذا العشق وذلك الحب لما تَيسَّر لي أن أنشر تسع مجموعات شعرية.
لقد بذر البذرة الأولى في نفسي لحب اللغة العربية - والحديث، هنا، عن الفصحى - أستاذي الأول في قواعدها عبدالله العلي النعيم - حفظه الله ورعاه - قبل ثلاثة وستين عاماً. حينذاك كان يدرِّس النحو لتلاميذ السنة الرابعة الابتدائية في المدرسة العزيزية بعنيزة. وكنت قد التحقت في تلك المدرسة في النصف الثاني من العام الدراسي. ونتيجة لرعايته وتشجيعه أصبحت الأول من بين الناجحين. وكان من حسن الحظ والتوفيق أنه أصبح المُدرِّس للقواعد في السنتين الخامسة والسادسة. وما تَعلَّمته على يديه في تلك المرحلة ما زال هو عُدَّتي وعمادي في هذا المجال حتى الآن. وإذا أراد الله - سبحانه - بعبده خيراً، وشاء له توفيقاً، والى نعمه عليه. فكان من توفيقه لي أن أصبح الأستاذ الكريم، والمربِّي الفاضل، سعد أبو معطي، الذي وُفِّق معهد عنيزة العلمي بتولِّيه إدارته، أستاذاً لي ولزملائي في مادة الإنشاء. وسيرة ذلك الأستاذ - تَغمَّده الله برحمته ورضوانه - سيرة جديرة بأن تحتذى؛ كفاءة علمية، ومقدرة إدارية، وإخلاصاً ونزاهة يد. وكما كان الأستاذ أبو علي النعيم ـ حفظه الله ورعاه ـ هو من بذر البذرة الأولى في نفسي لمحبة قواعد اللغة العربية كان الأستاذ أبو معطي هو من غرس حب الكتابة في قلبي، ورعى بداية نُموِّها حَقَّ الرعاية. وما زلت أحتفظ بتعليقاته المُشجِّعة لي على ما كنت أكتبه في دفتر الإنشاء عندما كنت في السنة الثالثة من المرحلة المتوسطة الدراسية. ومن تلك التعليقات تعليق على موضوع يَتضمَّن الدعوة إلى زيارة بلدتي عنيزة. وكنت قد ضَمَّنت كتابتي فيه عشرين بيتاً من نظمي. ذلك الرعيل من الأساتذة المُربِّين؛ أمثال أبي علي النعيم وأبي معطي، كانوا بناة الجيل حقاً. جزاهم الله خير الجزاء.
ولقد كان مُتوقَّعاً - وأنا المحب للغة العربية؛ شعراً ونثراً، - أن أكون في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود. لكن كان من ظروف علاقتي ببعض أساتذته الكرام حينذاك ما صرفني عن الالتحاق بذلك القسم؛ وهي ظروف سبق أن أشرت إليها في إحدى الكتابات أو المقابلات، ولا يَتَّسع المجال، هنا، لإعادة الإشارة إليها.
على أن حبي للغة العربية ظَلَّ في شغاف القلب. وكان من ذلك الحب أن اجتهدت وكتبت ملحوظات على الكتب المُقرَّرة في تلك اللغة بالمرحلة الابتدائية من التعليم العام؛ مُعتقداً أن إجادة تلك القواعد في ذلك التعليم كافية لتمكين الناجح فيها من الحصول على ما هو مطلوب؛ كتابة وقراءة.
وكانت بداية تلك الملحوظات حول ما ورد في مُقدَّمة كتاب السنة الأولى الابتدائية في مدارس البنات حول كتابة الحروف الهجائية من كلام لم يكن مُوفَّقاً؛ إذ كان لا يَتَّفق مع الواقع، وبَيَّنت أن تَغيُّر لفظ الحروف بين كونه مستقلاً وكونه في كلمة ليس أمراً خاصاً باللغة العربية وحدها؛ بل إن بعض الحروف في عِدَّة لغات أوروبية لا يوجد شبه بين نطقها مستقلة ونطقها ضمن الكلمة. بل إن بعض الحروف في تلك اللغات تكتب ولا تنطق أحياناً. وقلت: إن الحكم على الشيء ينبغي أن يكون مبنياً على نتائجه الملموسة. كان الطفل في السنة الثالثة الابتدائية يكتب الخط الذي يملَى عليه فَيُقرَأ خطه، وكان يقرأ رَدَّ ذلك الخط. فهل يستطيع الطفل في السنة الثالثة الابتدائية الآن أن يفعل كما كان يفعل سلفه الذي درس حسب الطريقة القديمة؟ (على أن الملحوظات كتبت قبل أن تَتهيَّأ وسائل التقنية الحديثة التي تساعد الطفل على المعرفة؛ لا سيما ما يَتَّصل بالتحدُّث بالفصحى).
وكان من تلك الملحوظات ما ورد بشأن كتب قواعد اللغة العربية في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة. ومما قلته، في هذا الشأن: إن تقرير حجم أيِّ مادة من مواد التعليم يعتمد على الهدف من هذه المادة ومدى قدرة التلميذ على استيعابها. ومن المسلَّم به أن الهدف من تدريس قواعد اللغة العربية في تلك المرحلة من التعليم العام هو تعليم التلميذ ما يساعده على عدم الوقوع في خطأ نحوي؛ كتابة أو قراءة. وبناء على ذلك فإن من الواجب ترسيخ القواعد الضرورية في المُقرَّرات، وعدم إقحام تفصيلات وتفريعات توجد في كتب النحو ولا يحتاج إلى معرفتها إلا المُتخصِّصون في هذه المادة.
ومما ذكرته من تلك التفصيلات والتفريعات، التي لم أر داعياً لوجودها في المرحلتين المذكورتين من التعليم العام، إلزام التلميذ بمعرفة الحال الجملة؛ فعلية أو اسمية. ذلك أنه لا يُتوقَّع أن يخطئ في باب الحال إلا في الحال المفردة، التي هي واجبة النصب. أما الحال الجملة فالخطأ فيها داخل في باب الفاعل أو نائبه إن كانت فعلية، وفي باب المبتدأ والخبر إن كانت اسمية. ومن ذلك إلزام التلميذ في باب المفعول معه بمعرفة ثلاث حالات للاسم الواقع بعد الواو. أولها تَعُّين نصبه على أنه مفعول معه، وثانيها تَعيُّن عطفه على ما قبله، وثالثها جواز نصبه على أنه مفعول معه وعطفه على ما قبله إذا جاز اشتراكه في الفعل وعدم اشتراكه فيه. ومن الواضح أنه لا داعي لمعرفة التلميذ غير الأمر الأول، وهو تَعُّين النصب لأن الباب عن المفعول معه لا عن غيره، ولأن ما يجب عطفه داخل في باب العطف، وما يجوز فيه الأمران يعني أن الطالب عملياً لن يخطئ فيه لأنه إن نصب فكلامه صحيح، وإن عطف فكلامه صحيح أيضاً.
وكان مما قلته: إن كثيراً من طلاب الجامعة يخطئون الآن في أسس قواعد اللغة التي درسوها في المرحلة الابتدائية؛ ناهيك عن المتوسطة أو الثانوية. وإن من أكبر أسباب هذا التدنِّي كثرة ما أقحم في الكتب المُقرَّرة في التعليم العام من تفصيلات وتفريعات لا داعي لها مما أربك الدارسين وحرمهم من التركيز على القواعد الضرورية الكافية - لو أتقنوها - لتقويم لغتهم؛ كتابة وقراءة، كما حرم الأساتذة من تركيزهم على الأمور التي لا بد من إتقان التلميذ لها.
وإن من المؤسف المؤلم أن مناهج قواعد اللغة العربية وكتبها في التعليم العام؛ وهو الأهم في ميدان التعليم، سارت سيرة مُتخبِّطة. فكان من ذلك أن كتبت كتب للبنين والبنات؛ مراعاة للدمج المعرفي فيما يبدو، وضع المطلوب حَلُّه من التمرينات بصيغة المضارع بدلاً من أن يكون وفقاً للمخاطب أو المخاطبة؛ مفرداً أو مثنى أو جمعاً. وبهذا حُرِم المُتعلِّم والمُتعلِّمة من فائدة التفريق في مخاطبة من يُوجِّه إليه، أو إليها، الخطاب. أما مستوى مضمون تلك الكتب، وأسلوبه فأمر يعرفه كل من تَأمَّل تلك الكتب. ولقد كان ضعف الخريجين والخريجات من التعليم العام في قواعد اللغة العربية مما استغلَّه أساتذة في قسم اللغة العربية بالجامعة، فجعلوه ذريعة لتقرير مادتين في هذه اللغة على كل طلبة الجامعة وطالباتها. والمُتأمِّل في مضمون ما قُرِّر في المادتين يجده لا يزيد عما درسه الطلبة والطالبات في التعليم العام. لِمَ اقتُرِح تدريس المادتين المذكورتين؟ من المؤسف أن ذلك الاقتراح لم يكن نابعاً عن اقتناع بجدواه، وإنما كان لأمر آخر. كانت كلية التربية مستقلة عن الجامعة تدار بتنسيق بين وزارة المعارف واليونسكو. وكان الطلاب فيها يحصلون على مكافأة شهرية. فانصرف الكثيرون إلى تلك الكلية، وأصبح عدد الطلبة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة أقلَّ من عدد الأساتذة. وخشي هؤلاء الأساتذة أن يغلق القسم، ويكتفى بالقسم الذي في كلية التربية. فشفع للاقتراح ما يُرَى من ضعف الطلبة باللغة العربية. وكان ما كان. وما لم يُبَن على اقتناع لا يُتوقَّع أن يكون له من الثمرة ما يُرجَى ويُؤمل. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإني أذكر أن قسم الدراسات الاجتماعية عندما فُتِح في كلية الآداب بجامعة الملك سعود اندفع كثير من الطلاب للالتحاق به. فما كان من المسؤولين فيه إلا أن اقترحوا أن يُشترَط للالتحاق به أن ينجح الراغب في ذلك بمستوى مُعيَّن باللغة الإنجليزية؛ مُبرّرين ذلك بأن علم الاجتماع علم حديث ومراجعه بالإنجليزية؛ وكأنهم على يقين بأن الطالب سوف يذهب إلى مكتبة الجامعة لقراءة ما كتب في ميدانه. ووافقت الجامعة؛ اقتناعاً أو مجاملة، على ذلك الاقتراح. وكانت النتيجة أن أكثر الطلبة لم ينجحوا بالإنجليزية، ولم يجد المسؤولون في القسم أعداداً كافية لقسمهم. فكتبوا ثانية إلى إدارة الجامعة؛ راجين أن يُلغَى شرط النجاح بالإنجليزية. وإن مسيرة تعليمٍ للغة فيها ما يََّصف بما ذكر لا أدري كيف تقاس حركتها، وكيف تكون نهاية سيرها.