اللهم لا سخط بل كامل الرضا، ولا مروق بل استسلام تام.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم إني أشكرك على نعمة استرداد أمي إلى مستقر رحمتك التي وسعت كل شيء.. أسجد لك حمداً وامتناناً وأنيخ حزني ووجدي وبثّي بأعتابك وأرمي لوعتي وتفطُّر فؤادي عند بابك.
غير أن هذا هو يوم الفراق الذي لا يمكن الاستعداد له من قِبل الأبناء سواء كانوا صغاراً أو كباراً وأنّى بلغوا من مراتب اليقين أو شقاء الأسئلة. أتحسس مذاق اليُتم يسيل على شفتي كزعاف مسموم لحيايا ضارية ويتدفق حميماً حارقاً على ذقني ورقبتي وترقوتي وصمامات قلبي وكأنني طفلة لم تُفطم بعد أو بنت لم تودع الطفولة فتتشبث بأطراف ثوب أمها بينما تميد الأرض بمن عليها وتنشق السماء وتتشظّى الشهب ويعود الطوفان من أوسع الأبواب.. فلا أملك إلا أن أخفض لأطيافها جناح الذل من الرحمة وأحاول بما اقتبست من قوة بأسها أن ألمّ شعث صغيرتها من شفا الضياع فيما أنحني للرحمن أسأله بأسمائه الحسنى أن يفرغ عليَّ صبراً ويسكب في روحي يقيناً قراحاً فلا أحسد أمي على جواره العظيم ولا أشغلها بمحدودية ما أعرف عن سعة ما لا أعرف بما تجده - بإذنه تعالى - من لذة النظر إلى وجهه الكريم العظيم رب العرش العظيم.
ليس ما يُكتب أو يُقال في رحيل سيدتي وأمي وتاج رأسي الشريفة نور الهاشمي.. تلك السيدة التي أطعمت العلم عيونها وسقت النزاهة والشرف ماء عروقها، عانقت العمل بوله عابد وطاردت اللقمة الحلال بفروسية الأحرار وجعلت من الحرية والجمال والحق معادلاً للحياة.. ومع ذلك فإنه ليس ما يُكتب أو يُقال إلا في ذلك الرحيل المبرح لتلك الأم الحازمة الحنون والصديقة المرهفة الشفيفة والإنسانة العظيمة التي شرّفني الله بأمومتها لي. إلا أنني في هذه المرحلة التي لم أستعدْ فيها توازني بعد بما يؤهلني لكتابة حرف يليق بسيدة الصبر والبصيرة.. سأترككم مع رسالة كتبتها تلك السيدة الحرة بحبر روحها قبل ما يقارب 22 عاماً وبالتحديد في شهر رجب عام 1411هـ وتركتها مغلَّفة أمانة في حوزتي لأعوذها بما جاء فيها من ذكر الله ولأقدمها لنفسي ولأشقائي وشقيقاتي وأحبتها حين يأزف الوقت. فأي سيدة سوى نور تكتب ورد رحيلها بيدها وتحفر في غيابها أحر كلمات العزاء لتقدمها لأبنائها بعد رحيلها بحراً من حنان يغسل جرحهم الذي ليس له آخر.. وهذه وصيتها التي لا يزن كلماتها ذهب الأرض ولا جبالها.
ورد نور عزاء نور في نور
«بسم الله على نفسي وجسدي وروحي وديني ومن هم زينة دنياي من فجيعة الموت.
اللهم برِّد عليّ حرارة الوفاة وهوِّن عليَّ لوعة فراق أحبتي وأهلي وكل ما أنعمَ به عليَّ ربي. اللهم تولّني بإحسانك ولطفك عند طلوع روحي.
بسم الله لا حول ولا قوة إلا بالله حان وقت رد الأمانة.
فاجعلها اللهم ميتة مباركة على توبة وشهادة.
لله ما أخذ ولله ما أعطى فأعطني اللهم الصبر والقوة على إعادة الأمانة لصاحبها.
بنفس راضية وقلب مُوقن بحسن قضائك وجميل قدرك وبأن لكل أجل كتابا وقد جاء الأجل ودنا الرحيل فاجعله اللهم مقبولاً ميسراً مؤدياً لقربك.
اللهم مننت عليَّ بنعمة الكفاح في الحياة فامنن علي بنعمة الراحة عند الموت.
قدّرتني على مجاهدة النفس والناس في الحياة الدنيا فقدّرني على مجاهدة سكرات الموت في سبيل أن ألقاك بأسارير متهللة وروح لا تطلب إلا رضاك.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً فاجعل انسلال روحي من جسدي عليَّ سهلاً كشربة الماء الزلال.
إلهي أكرمني بشجاعة ملاقاتك للتغلب على فزع الغياب عن الصحب والأبناء.
اللهم أحييتني على الحق وعلى كلمة التوحيد فتوفني بهاتين الكرامتين واجعلهما أغلى ما أترك من ورثي وخير ما أأخذ معي إلى قبري.
بسم الله عليَّ عند حضور ملك الموت.. وبسم الله على من أحاط بي عندها من ذريتي وأهلي.. إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم آجرهم في مصابهم واخلف لهم خيراً واخلف عليّ بجوارك.
اللهم لا راد لمشيئتك إذا حكم القضاء وأنت الأرحم بهم مني والأرحم بي منهم فعزنا عن بعضنا بطيب الرضا بمشيئتك وتمام الاستسلام لك.
بسم الله عليّ عند غرغرة روحي في حلقي. بسم الله على أبنائي وهم يديرونني على القبلة. بسم الله عليهم وهم يشهدونني. بسم الله على عقولهم وهم يشهدون فيضان روحي لبارئها. بسم الله على روحي وهي تسبقني لملاقاة ربي. بسم الله على جسدي قبل وبعد أن يخلو وفاضه. بسم الله على كبير عيالي وصغيرهم وهم يغمضون عيوني في نومتي الأخيرة. بسم الله عليهم وهم يتحملون إطباق جفوني بأيديهم براً بي واحتساباً عند الرحمن. بسم الله عليَّ في غسلي وبسم الله على من يقف على غسلي. بسم الله على الأمانة عند لفها بالكفن وبسم الله على الأيدي التي تطيبني وتسدل عليَّ ثوب ستري الأخير. بسم الله عليَّ تحت أستار الكعبة. بسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله عدد من صلى وحضر ومن قرأ وكبّر. بسم الله عليّ وعلى حاملي نعشي. بسم الله عليَّ وعلى من ينزلني قبري. بسم الله علي عند توسدي التراب. اللهم آمن الأرض التي أغلي والمعمورة التي تضمني بسم الله عليَّ من وحشة القبر إذا غادرني الأحياء. بسم الله عليَّ وعلى جيراني الجدد. بسم الله عليَّ عند حضور الملائكة لسؤالي.. اللهم ثبتني بالقول الثابت واربط علي روحي وقوِ رباطة جأشي. بسم الله عليَّ يوم موتي ودفني وبسم الله عليَّ يوم بعثي وما بينهما من أيام. اللهم إني صرت في ضيافتك وحدك لا شريك لك وأنت ذو الجلال والإكرام، فأكرم أمتك وقد صارت في كنف ضيافتك. بسم الله على أبنائي وبناتي وأهلي وصحبي من بعدي. الله ألهمهم الصبر والاحتساب واربط على قلوبهم وبين قلوبهم.
أسأل الله أن يحسن عزاءكم يا صغاري وإن كبرتم، ويعزكم بعزه فلا تنحنوا إلا لوجهه الذي جعلكم نِعم الأبناء وأوصيكم ببعضكم بعضاً وبما ربيتكم عليه من محبة وقيم وأخلاق. الله الله الوفاء. اللهم ارزقهم اليقين بأنه فراق الدنيا وأنه ليس آخر العهد. ومَن اللهم عليهم ذكوراً وإناثاً بحسن القول والعمل. الوداع يا فلذات الأكباد ويا كل الأهل والأصحاب. أستودعكم الله دينكم وعافيتكم وخواتم الأعمال.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله.. وإنا لله وإنا إليه راجعون».
الأسبوع القادم رسائل الأصدقاء المبدعة التي شاركتني جبروت الوداع.
Fowziyaat@hotmail.com