الإعلام الأمريكي قوة فعالة لا يستهان بها في توجيه الرأي العام العالمي. وكثيراً ما يستخدم التباكي على أمريكا ليستغل عوامل الحسد والإحباط عند شعوب العالم فينفس عنهم ويشغلهم في التهكم به بدلاً من الالتفات إلى بؤس حالهم.
ومن جهة أخرى فهذا الإعلام موجه وطنياً لاستثارة عوامل التعاطف مع الأمريكان ويحفز فيهم همة المنافسة والنهوض. ولا يشك أحد بأن الإعلام العربي تابع للإعلام الغربي بشكل فاضح وأن الإعلام الغربي تقوده أمريكا. والغرب عموماً وأمريكا خصوصاً ينظر لها العالم كما ينظر الفلاح البسيط وعائلته إلى الباشا وعائلته المالكة لكل شيء. فموت قطة بنت الباشا المدللة يحدث هزة إعلامية في إقطاعية الباشا كلها. فهناك من يبكي من بنات الفلاحين تعاطفاً مع بنت الباشا، وهناك من يشمت ويتشفى بذلك ويفخر بأنه الحكيم المدبر الذي لا ترف عنده ولا دلع ممجوج لتربي ابنته قطة، ونسي أو تناسى أنه قد فقد ابنه تحت أنقاض بئر الباشا وأن ابنته قد أوذيت من ابن الباشا وأن زوجته قد ماتت وجنينها في نفاسها لم تجد دواء بقرش كان ممن الممكن أن ينقذها.
والأزمة المالية من الأمثلة الحاضرة التي تشهد اليوم على قوة الإعلام في جعل العالم كالباشا والفلاح وابنتيهما. فأصل الأزمة المالية هو انتهاء فترة النمو الأمريكي التي كانت «الدوت كم» سببها، وعدم مجيء الأمريكان بابتداع جديد يدفع عجلة الاقتصاد لديهم، فالاقتصاد الأمريكي قائم على الإبداعية لا على التقليد. فدخلت أمريكا في دائرة الانحسار الاقتصادي في مارس 2001 ودخل رئيس الاحتياطي الفدرالي - قرين سبان - والرئيس بوش الابن في الصراع القديم المتجدد (كما حدث بينه وبين بوش الأب) بين السياسة المالية -في تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق- والسياسة النقدية - في رفع سعر الفائدة- حتى جاء حادث التاسع من سبتمبر الذي قلب الموازين والإستراتيجيات الأمريكية كلها وقلب مما قلب قناعات قرين سبان. فاحتال الرجل لقومه -وهو يهودي مجري الأصل-، فأظهر الأدوات المالية لتكون محرك النمو للسنوات التي تلت ما بعد حادث سبتمبر. ألقى قرين سبان بكل الثقة الدولية التي اكتسبها في نصف قرن والثقة التي أكسبها للدولار الأمريكي في فترة رئاسته للاحتياط الفدرالي لربع قرن، فهندس تخفيض الدولار -بخفض الفوائد وضخ السيولة- وصمم خارطة الطريق لطفرة النمو الاقتصادي الأمريكي للعقد الأول من عام 2001 م عن طريق دعم الابتكارية الجديدة المسماة بالمشتقات. فتغاضى الرجل عن البنوك ووفر البنية اللازمة لضمان استمرارية نمو المشتقات عن طريق تسهيل الرهون العقارية (لتكون رهونا ضامنة للمشتقات). ونما الاقتصاد الأمريكي لسبع سنوات نمواً لم يُشهد له مثيل دون أن ينتج إلا أوراقاً تسمى بالمشتقات وبسندات الرهون العقارية. فضرب الرجل عصافير كثيرة وليس عصفوراً واحداً منها:
1 - قطع الطريق على أن يقال إن حادث سبتمبر كان سبباً في انهيار أمريكا اقتصادياً.
2 - رفع نسبة الإسكان في أمريكا من 63% إلى 76% (الآن تدور حول 71%).
3 - جعل العالم كله يدفع ثمن سبع سنوات من النمو الأمريكي.
4 - فضمن إضعافهم ليحقق زيادة الثقة في الدولار الأمريكي (وها هي الشواهد ماثلة اليوم).
5 - طور الصناعة المالية في أمريكا لتستعد للدخول في منافسة التطوير والابتكارية للمحافظة على قيادة السوق النقدية العالمية القادمة واستمرار هيمنة الدولار.
ثم ماذا بعد؟ جعل قرين سبان من نفسه قربانا لبلاده، فتحمل الخطأ ببرود قاتل في شهادته أمام الكونجرس وفاز بلقب «هيرو» أي البطل. ففي تاريخ أمريكا هناك الكثير من الوطنيين الذين قدموا أنفسهم وعقولهم وأموالهم وسمعتهم فدوة وتضحية لديارهم دون أن يحصلوا على مقابل ملموس أو معلن عنه، اللهم إلا أن خاصة قومهم لم يجحدوهم ثم عُرفوا فيما بعد «بالهيروز» أي الأبطال، وقرين سبان هو من آخرهم. وهناك أمثلة مشابهة في أيسلندا وبعض دول أوربا ممن أدرك القائمون على السياسة عندهم بحيلة قرين سبان فقاموا بمثلها إلا أن بعضهم لم يحسن اللعبة جيداً كاليونان وإيطاليا وإسبانيا وبعضهم قد يكون أجادها أفضل من قرين سبان كأيسلندا ودبي، ولا يتسع المقام للحديث عنهم اليوم ولكن السؤال المطروح هو: هل عجزت بلاد العرب على أن تلد قرين سبان عربياً مسلماً؟ والجواب المسكوت عنه أنها لم تعجز أن تلد مثله وأحسن منه بل عجزت أن تُمكنه.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem