من الواضح جداً؛ أنّ الكيانات الإرهابية التي تنتمي إلى القاعدة؛ أو هي تنهج نهجهاً في تنفيذ عمليات إرهابية في أكثر من قطر عربي؛ وفي مقدِّمتها اليمن.. تبدو وكأنها تنشط من جديد، أو تمر بحالة تكوين وتأطير لما سوف نشهده في المستقبل من عمليات أكبر، فهي وبكل تأكيد،
تستثمر التشرذم العربي، وتستفيد من الانفلات الأمني على أكثر من صعيد، وتستغل حاجة الناس للغذاء والدواء والأمن، لصالح كوادرها الجديدة، ولإيهام القريبين والبعيدين، أنها موجودة، وأنها تملك الأرض، وتملك السلاح، وتملك ولاء الناس في محيطها، وبالتالي فهي قادمة لإعلان إماراتها الإسلامية في عدد من الأقطار العربية، التي أصبحت تأتمر للشوارع، وتفتقد للمرجعية الحاكمية، وتفتقر للسلطات المركزية، وتنقصها القوة الرادعة لمواجهة المتلاعبين بأمن البلدان، والمستهترين بمستقبلها، والمفرطين في وحدتها.
هذه هي واحدة من أسوأ ما أفرزه الربيع العربي.. إسقاط هيبة الدولة المركزية، وتفتيت المنظومات الأمنية، وإشاعة الفوضى، وظهور التوحُّش في المجتمع الواحد، الذي توزّع بين أحزاب وفئات وجماعات؛ كلٌّ يغني على رؤاه وأحلامه، ويرقص على أطماعه. هذا هو الذي كانت تسعى إليه القاعدة منذ ظهورها، وظلّت تُنظِّر وتعمل من أجله منذ أكثر من عقد من الزمان.
إنّ كتاب: (إدارة التوحُّش) لمن سمّى نفسه (أبو بكر ناجي) يشرح فكر القاعدة، ويوضح إستراتيجيتها في الثورة على الحكومات والسيطرة على الشعوب العربية، ويكشف خططها الأيدولوجية والعملياتية، فلكي تتحقق أهدافها في السيطرة والتسلُّط، تسعى إلى إشاعة التوحُّش ابتداءً في داخل المجتمعات العربية، ثم تأتي الخطوة الثانية، وهي: تعميم الفوضى، التي تُكسر فيها كافة القيود، ويصبح الناس بدون أمن ولا قيادة ولا مرجعية من أيّ نوع، ولا أحد أمامها إلاّ القاعدة، التي تقدم نفسها كوريث سائد بعد حكم بائد، ومنقذ جاهز من الأوضاع السيئة.
الثورات العربية التي تتسمّى بالربيع العربي، لم تقدم البديل الأفضل حتى الآن، ولن تقدم ما يوازي تضحيات الشعوب الثائرة إلى سنوات طوال قادمة.
الذي قدمته حتى الآن وهيأته؛ هو البيئة المناسبة لبروز المزيد من الفكر المتطرِّف في المجتمعات العربية، وفسح المجال أمام استنبات جيد للفكر الطالباني، الذي هو الفكر المؤسس للقاعدة منذ البداية، وبهذا أصبح المجال واسعاً لظهور القاعدة كقوة منافسة، في وسعها إدارة عملياتها البنائية والإرهابية، فكرياً عن طريق بروز حزبيات سلفية ناشئة، وإخوانية تغيّر جلدها حسب الطلب.
كانت سلفيات بلاد الربيع العربي فيما سبق؛ في الظل تماماً، ثم انتقلت اليوم من صف الدعوة إلى صف الدولة، بكل ما هي عليه من نزق ورفض وعدوانية، وخاصة الجماعات الطالبانية التي ترفع شعار السلفية اليوم في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا والجزائر والمغرب، ثم أخيراً في طرابلس لبنان، وغداً في سوريا.
إنها بهذه الفجاجة الحركية، والجاهلية السياسية، لهي الأم الرءوم لجيل قادم قاعدي بامتياز، جيل تحركه ردة ثقافية باطشة، يزلزل المنطقة، ويزعزع الأمن، ويؤلب على الأقطار العربية كافة، وينازع حزبيات أخر مثل الإخوان وغيرهم سلطة الحكم، وربما يفرض محاصصات سياسية وقيادية في أكثر من قطر، في حين أنه غير مؤهّل لهذه الأدوار مثل غيره من الأحزاب التي تملك الخبرة.
نفّذت القاعدة أكبر مقتلة إرهابية في قلب صنعاء في بحر الأسبوع الفارط. غزوة دموية جديدة تتقرّب بها إلى قلوب اليمنيين..! وهي تسعى للاستيلاء على بلدات في الجنوب اليمني، وكان إرهاب القاعدة قد عبث بالعراق، وهو يتجه اليوم نحو سوريا ولبنان تحت راية سلفية هذه المرة، وتمكّن القاعديون من حجز مكان لهم في ليبيا بعد القذافي، واستولوا على أسلحة نوعية منها صواريخ سام، واتخذوا إمارة لهم في شمالي مالي، وهم يهددون دول شمالي أفريقيا ووسطها، ويهددون الملاحة الجوية، وهم يستفيدون من التنظيمات السلفية في الجزائر والمغرب وموريتانيا، ومع ذلك، هل يأتي اليوم الذي يصبح فيه للقاعدة دولة؟ وللإرهاب صولة؟
إنّ مجريات التاريخ؛ تحدثنا أن لا دولة ولا صولة لكلِّ تنظيم إرهابي على مدى تاريخ البشرية.
الإرهابيون يظلّون إرهابيين مطاردين محاربين في كل مكان.
لا أرض تأويهم إلاّ الكهوف والجبال، إلى أن يتم القضاء عليهم.
المجتمعات السوية ترفض مبدأ العنف، وتأبى القهر بكل ألوانه، فكيف إذا جاء عن طريق التكفير والتفجير والقتل.
ظهر مذهب الحشاشين مثل مذهب طالبان تماماً، وبرزت جماعة الحشاشين على يد زعيمها (الحسن الصبّاح) سنة 1090م، لكنها ظلّت طوال ثلاثة قرون تحتمي بقلعة علمون التي شيّدتها على قمة جبال البُرز على مقربة من بحر قزوين، ولما أتى القائد المغولي هولاكو، أسقط القلعة، واقتلع الحركة عام 1256م.
أسامة بن لادن؛ أسّس القاعدة على فكر طالبان الظلامي، الذي سبق قيام الحركة بعقود عدّة، وانتشر في أفغانستان والباكستان عن طريق المدارس الدينية المدعومة من أطراف عربية ظلامية، وظل ابن لادن حتى هلك وهو يحتمي بكهوف تورا بورا، وفي جبال قالات في مقاطعة زابول المتاخمة لقندهار في أفغانستان، أرض قبائل الهوتاك الذي ينتمي إليها الملا محمد عمر، وتسمّى أرض الغبار الأسود، لجبالها الموحشة وصخورها الجرداء.
هلك ابن لادن، وسوف يهلك من بعده الظواهري وقادة هذه الحركة وعناصرها في كل مكان هم فيه، تماماً مثلما هلك الحسن الصبّاح، وهلك من بعده خلفاؤه في التنظيم الشرير الذي كان يمارس القتل والتدمير من رؤوس الجبال.
يفشل الإرهاب، وتسقط جماعاته وحزبياته وفصائله، لأنّ حتمية التاريخ تقضي بذلك.
إنّ النجاح الذي تحقق لعناصر القاعدة على أنقاض الحكومات العربية السابقة بعد الثورات عليها، هو نتيجة حتمية لانفراط عقد المؤسسات الأمنية أولاً، ثم للتخبُّط الذي تعيشه مجتمعات هذه الشعوب، بسبب الفوضى، وبسبب حُمّى الربيع الذي لم يزهر بعد، وقد يمر وقت طويل قبل التمكُّن من هزيمة القاعدة واقتلاعها من جذورها، إلاّ أنّ النهاية ليست لصالح الإرهاب، وليست مع القاعدة كما قلنا، إنها مع الثقافة الإيجابية البنّاءة، التي تترسّخ في الأجيال القادمة عن طريق التعليم والإعلام، وهي ترفض الإرهاب، وتأبى التطرُّف، حتى لو تأخر ذلك لعقود طويلة.
الخطير في الأمر؛ ليس القاعدة وما إذا كانت ستنجح أم لا في مقبل الأيام، وإنما في الثمن الباهظ الذي سوف يُدفع لدرء هذا الخطر على مدى عقود قادمة، خاصة وأنّ الأفكار الطالبانية الظلامية، التي أنبتت القاعدة من الأساس، ما زالت تنتج وتزدهر وتتسيّد، وتجذب المزيد من الأنصار والأعوان، حتى وصلت إلى بلدان مثل تونس ومصر، ورأينا كيف يتحوّل الخطاب الديني؛ الذي كنا نظنّه معتدلاً في هذين البلدين السابقين للتحضُّر والتمدّن، إلى قذائف نارية، تؤجّج المشاعر، وتعزّز الكره، وتدفع إلى العنف.
الإرهاب يخيف الناس، والقاعدة تقتل الناس، والناس لن يحبوا من يخيفهم ويقتلهم.
حبُّ الناس يُوهب ولا يُنهب. لهذا.. فإنّ فشل الإرهاب حتمي، وسقوط القاعدة حتمي.
assahm@maktoob.com - Assahm1900@hotmail.com