ليس أسوأ ضرراً على أية مسيرة مؤسساتية للإصلاح من المزايدين عليها أو المتشنجين ضدها؛ ذلك أن مناخ الإصلاح يستلزم مساحة من الوعي والبصيرة، يتخلى فيها الأطراف عن اعتقاداتهم السلبية تجاه الأطراف الأخرى إلى استثمار أية حدث في تصحيح هذه المسيرة إذا وُجد الخطأ أو تعزيز الثقة فيها إذا بدر الصواب. ولعل أبرز عبارة أستحضرها في هذا السياق ما جاء على لسان السيناتور الأمريكي جون كيري حين قال: «الإصلاح بحاجة إلى أمثلة وليس إلى دعاة!».
تابعت كغيري حادثة فتاة حياة مول، وشاهدت التسجيل الذي بُثَّ على مواقع التواصل الاجتماعي وردود الأفعال المنقسمة حول تصويب موقف الهيئة أو الفتاة، وما لفت نظري أن الجدل الدائر حول الحادثة لم يتجاوز الاصطفاف التقليدي بين من يلوم رجل الهيئة على طول الخط، ومن يلوم الفتاة ويصفها بأقبح الألفاظ التي يُفترض أن الهيئة قد أُنشئت لتحمي أعراض الفتيات ممن يخوضون فيها.
المضحك المبكي في الحادثة اختزال القضية الموقف في المناكير بين من يصفها بأم الكبائر ومن يتندر حتى بالإشارة إليها بعيداً عن السياق التي ذُكرت فيه. بالنسبة لي شخصياً فقد قرأت في الحادثة بارقة أمل في قضية تُعَدّ من ميادين الانقسام الحاد بين المختلفين فيها، فقد استرعى انتباهي الحكمة والاتزان اللذين تحلى بهما رجال الهيئة في مواجهة استفزازات فتاة بدا وكأنها مندفعة ومتحاملة على الهيئة، ليس من هذا الموقف فقط، بل من الإرث الذي استقر في ذهنها عن أداء هذه المؤسسة، كما بدا من حديثها، ولأن الإصلاح بحاجة إلى أمثلة وليس إلى دعاة كما قال كيري فإن قياس المسافة بين موقف رجل الهيئة في حياة مول ومواقف بعض المتحمسين سابقاً من أعضائها، الذين ارتكبوا تجاوزات جنائية في أعمالهم تحت ذريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكشف حجم الإصلاح الذي شهدته هذه المؤسسة والوعي الذي تحقق لأعضائها مع استمرار مسيرتها مع رئيسها المحنك الشيخ عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ.
أعتقد جازماً بأن التسجيل الذي تم تداوله بشكل واسع حتى وإن حاول البعض الانتقاص فيه من الهيئة ودورها والعزف على وتر تأجيج العواطف تجاه مسيرتها الإصلاحية لضربها وإعادتها إلى مربع الصدام، إلا أنه قدَّم صورة حقيقية لما تحقق لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجال بناء الإنسان النوعي القادر على التغيير والتأثير من خلال ضبط تصرفاته وانفعالاته وفق حدود القانون والعدالة، بعد أن كان الانطباع السائد يستند إلى صورة مشوهة عن أفراد يستخدمون انتماءهم لهذه المؤسسة كعصا غليظة ضد أفراد المجتمع.
أخيراً، لا أحد يجادل في التزام المملكة بإقامة هذه الشعيرة العظيمة بوصفها دولة وحيدة في العالم، ومنذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله - يحفظه الله -، غير أن ضمانة استمرار إقامة هذه الشعيرة هي صلاح ممارستها وترسيخها في الوعي الاجتماعي وفي وعي الأجيال بوصفها مؤسسة إصلاح وتقويم أكثر من مؤسسة عقاب وتجريم، وأكبر ضمانة لدعمها لن تكون السلطة التي تُمنح لها فقط بل أيضاً بقدر التلاحم والضبط الاجتماعي الواعي بدورها ودور أفرادها. واليوم لا بد للمنتمين لهذه المؤسسة من استيعاب واقع مسيرتها الإصلاحية، والتفاعل مع رؤى رئيسها الجديد الذي يحمل كثيراً من الوعي بإعادة صياغة علاقتها بالمجتمع من زاوية بناء وتأهيل إنسانها.
دمتم بود، وإلى لقاء.
fahadalajlan@