للعرب تاريخ عريق، وثقافة وحضارة رائعتان أضاعتها منهم تقلبات الزمن، ومنع تطورها قمع الظروف التاريخية الصعبة التي مروا ويمرون بها. ولذلك يبدع كثير من العرب خارج أوطانهم فقط حيث يجدون الرعاية والتقدير.
فأحمد زويل، وفاروق الباز، وجبران خليل جبران ليسوا
استثناءات من هذه الأمة ويوجد من أمثالهم الآلاف الذي لم يجدوا البيئة المنتجة المناسبة، لأن العرب اليوم مشغولون بما يفرقهم ويضيع مواردهم لا بما يجمعهم ويرفع من شأنهم، وقد أصبحوا اليوم وللأسف مضرب مثل للفرقة وسوء التدبير ودنو الهمة.
لكن العبقرية العربية تخبو ولا تختفي وتظهر رغم كل التحديات في أي مكان غير متوقع، وهذا ما أثبتته المعمارية العراقية زهاء حديد التي أحدثت ثورة غير مسبوقة في عالم الهندسة المعمارية، ثورة تشبه ثورة بيكاسو في الفن إن لم تفقها في جوانب كثيرة.
تصاميم زهاء حديد تلامس حدود العبقرية والجنون، جنون من نوع خاص غير مألوف يضع من يشاهده أمام معضلة حقيقية في تحديد هوية ما يراه بشكل يتحدى كل ما هو مألوف ويتجاوزه إلى آفاق هندسية غير مطروقة من قبل تأسر الخيال قبل أن تخضع للعقل، لأنها لا تخضع لأيٍ من معايير الأشكال الهندسية المتسقة المألوفة، لكنها في الوقت ذاته جميلة ومتناسقة بعلاقات متجانسة بشكل غير مسبوق، فزهاء حديد أعادت صياغة الكتل، والفراغات المعمارية بأسلوب مبتكر متمرد على كل ما هو قديم.
في رأي زهاء حديد، العمارة ليست فقط لإيجاد بنايات ضخمة قوية تخدم أهدافا معينة فقط، فهي إضافة لذلك لا بد وأن تجعلنا نتحسس الجمال من حولنا وأن تمكننا من حياة أفضل، وأن تزيد مستوى التنوير والثقافة الجمالية لدينا.
فالعامة اليوم، في رأيها، يتكلمون عن الهندسة المعمارية بشكل غير مسبوق وهم أكثر وعيا بأهميتها من الأجيال السابقة.
فنحن نحتاج لمدارس، ومستشفيات، وأماكن عمل ولكن هذه الأماكن يجب أن تكون جميلة، ومريحة، وممتعة لنا، هكذا ترى زهاء حديد العمارة.
لم تخلُ حياة زهاء حديد ذاتها من الإثارة، فقد كان ينظر لرسوماتها، بالرغم من أن هذه التصاميم كانت تفوز بمعظم المسابقات والجوائز المهمة، على أنها محض خيالات مستقبلية جامحة غير قابلة للتنفيذ إلا إذا حصل تطور شاطح مماثل في مواد، وأساليب، وتقنيات الإنشاء.
واستمرت زهاء حديد في حصد جوائز مسابقات التصميم في هونق كونج، وسنغافورة، وشيكاغو، ودرّست في أعرق الجامعات في أوربا وأمريكا.
ثم حصل أن طرح في بريطانيا في عام 1994 مشروع لتصميم دار أوبرا في كارديف شاركت فيه أكبر مؤسسات ودور العمارة في العالم، ففازت زها حديد بالجائزة، فأمر عمدة المدينة العنصري بإعادة المسابقة، ووسط دهشة الجميع فازت تصاميمها مرة أخرى في المسابقة المعادة، فأمر بتغيير مشروع دار الأوبرا لملعب كرة قدم.
نفذ أول مشروع كبير لزهاء حديد في ألمانيا وهو محطة “فيترا” لإطفاء الحريق في ألمانيا عام 1990م وأخذ شكل حيطان طائرة، أشكالا هندسية في حركة ثابتة وكأنما هي في بداية انطلاقتها لفضاء ما، تصميم مليء بالحركة والتجديد، أضافت للبيئة المحيطة كتلا جميلة أقرب للمنحوتات منها للبنايات.
وكانت المحطة مثالا للإبداع الهندسي، والوظيفي، بعدها استفاق الناس لتصاميمها السابقة، وعرفوا أنها ليست مجرد خيالات بل رسوم قابلة للتحول إلى منشآت رائعة، ومعالم معمارية بارزة، فأنهمرت عليها المشاريع: متاحف عالمية في روما، ومدريد، ونيويورك؛ مبانٍ في كل مكان، حدائق عامة في سيول، وهونج كونج، و لندن، ومبنى الأوبرا في كوانزو في الصين وغيرها من المشاريع في عواصم العالم، أخرها كان مبنى الرياضة المائية في أولمبياد لندن، لتتربع زهاء حديد على عرش التصميم الهندسي وتمنح أرقى جوائز العالم للتصميم بما فيها جائزة برتزكر في 2004م التي تعادل جائزة نوبل للعلوم والآداب.
أما في عالمنا العربي فقد دعيت لتصميم “مبنى الفنون التطبيقية في أبو ظبي”، وبعض المباني في الدوحة، إلا أن مشروع “مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية” والذي ينفذ حاليا قرب المطار في الرياض يعد المشروع الأهم في المنطقة العربية من حيث الشكل والحجم، ويعد حدثا معماريا دوليا مهما على مختلف الأصعدة ولكنه وللأسف لم يحض بأي تغطية إعلامية محلية، رغم أنه حضي بتغطية عالمية، وكان الأولى أن يستغل هذا الحدث إعلاميا، وثقافيا في الداخل والخارج، فبمثل هذه المشاريع تستطيع المملكة أن تحاور العالم الخارجي فكريا، وفنياً، فهي حوارات حضارية غير رسمية تتقبله الشعوب في الخارج وتتطلع إليه.
ويفترض أن تكون مثل هذه المشاريع الرائعة ذات القيمة الهندسية والجمالية المضافة مثالا لما نريده من عمارة جميلة في مدننا، بدلا من أن يزرع عقاريونا شوارعنا بمبان زجاجية ضخمة قبيحة التصاميم تخدش الذوق وتؤذي العين، فالمباني تنطق عن المدن، وبها يكتب تاريخها.
مشاريع زهاء حديد بعدها بعض النقاد على أنها من هندسة ما بعد الحداثة، حيث يداعب الخيال هوامش المركز وحيث يبتعد الفكر عن مركزية المألوف إلى آفاق ما كان ينظر إليه على أنه هامشي، بحيث يتحول الهامش المهمل، بشكل مدهش، إلى مركز جديد متجدد متحرك نتحسس جماله ولا نعرف مصدره، ففي عمارة زهاء حديد ليس هناك مركز، ولا كتلا مركزية، ولا تراتبية في إبراز أهمية أجزاء المبنى، والكتل والأبعاد متساوية الأهمية، و يمكن أن ينظر للمبنى من أي بعد أو اتجاه بشكل متساو في الجمال والاتساق، فهو مبنى متحرك المركز، بأشكال هندسية معينية تكون دائما ذات أبعاد متغيرة فريدة حجما وشكلا وكأنما هي تسبح فوق سطح متحرك سائل.
ومبنى مركز الملك عبدالله جمع مباني مختلفة بأشكال مبتكرة مترابطة، بها خطوط وأشكال متجانسة ولكنها غير متناظرة، وهي في مجملها تشكل ما يشبه خلية نحل تظلل العاملين تحتها من هجير الصحراء، والمباني من الداخل غير مألوفة ولكنها مريحة، أما تصميم المصلى فهو مدهش حقا حيث تطل العمارة الإسلامية بشكل جديد كليا يتوسطه منارة تخترق المبنى كالمسلة منطلقة من بحيرة مائية صغيرة.
الوسط الهندسي الغربي استكثر زهاء حديد على العرب، وكان دائما يذكرها بإقامتها وتعليمها في لندن ويلمح لها بأنه غربية متى شاءت أن تكون، فهي سيدة ذات عقل أبيض، وعبقرية زرقاء، في جسد أسمر.
ولكنها كانت ترفض ذلك دائما وتصر على أنها عربية، هكذا “أنا عربية”، فيعاد عليها السؤال بشكل آخر علها تتراجع أو تستدرك، أنت عراقية بريطانية، فتصر مرة أخرى أنا عربية، وهي تعرف كيف أن الإعلام يريد أن ينفي عن العرب أي إسهام حضاري.
وهنا يجتمع الوعي السياسي بالعبقرية الفنية في شخصية فذة لا يمكن أن تتكرر.
دعوة زهاء حديد لمشاريع في المملكة، خصوصا في زمن الوفرة المالية أتت متأخرة، لأن زهاء حديد مثلها مثل هنريك لارسن، ونورمان فوستر، وغيرهم شكلوا إضافات مهمة لعمارتنا الإسلامية غير أن زهاء حديد تتميز عنهم كونها عربية مسلمة، تعرف خصوصية العمارة العربية الإسلامية التي هي جزء من هويتها ودينها، وتعرف بالضبط ما هي الأسواق، والمساجد والمصليات وتحس بها، وأكثر من ذلك تعرف كيف يريد العرب المسلمون أن يعيشوا.
أما عدم تغطية هذا الحدث من إعلامنا فيدل على أن إعلامنا يعيش حالة انفصام عن ثقافتنا، أو أنه لا يدرك أهمية حدث كهذا.
فقامات هندسية مثل زهاء حديد، ومشاريع كبيرة مثل “مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية” تعد حدثا ثقافيا عالميا مهما، وأن يمر هكذا وكأنما هو مجمع من عرض المجمعات المتناثرة حولنا يظهر أننا نستورد مشاريع لم نعِ أهميتها بعد، وهذا غير صحيح، ولو كان صحيحا فواجب الإعلام لدينا أن يثقفنا عما يستجد حولنا من مشاريع ذات قيمة جمالية تثقيفية.
فنحن أهل زهاء حديد ونحن أحق بها من الآخرين، فلربما كانت لها جذور في جزيرة العرب أيضا، فأهلا بك زهاء حديد وبك تزهو مدينتنا المحبوبة الرياض.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif