جاء في القرآن الكريم الحث على الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ -، وبيان عظم فضلها، ومن ذلك قول الله - عزَّ وجلَّ -: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) سورة فصلت، قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: (أي دعا عبدالله إليه وهو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى، وهذه عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتدٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك).
وقال - سبحانه وتعالى -: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) سورة آل عمران، فالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب الفلاح والظفر بالمطلوب، وقال - تعالى -: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) سورة الفرقان، قال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - وغيره من أئمة التفسير: (أئمة يُقتدى بنا في الخير)، قال ابن كثير - رحمه الله -: (فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثواباً، وأحسن مآباً).
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك الحث على الدعوة وبيان عظم فضلها، ومن ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: (من دل على هدى فله مثل أجر فاعله) «رواه مسلم»، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثات من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) «أخرجه مسلم»، فالداعي إلى الله له مثل أجر من اتبعه على الخير، ومما يدل على فضل الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - قوله صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه -: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) «متفق على صحته»، ومما يدل على فضل الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - ما رواه أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) «أخرجه الترمذي».
والدعوة تحتاج إلى دعاة يحملون الدعوة ويقومون عليها، ولهم في ذلك الأجر العظيم.
والداعية يبنغي له أن يتحلّى بالصفات التي جاء بها الشرع، ومن أهم صفات الداعية: الإخلاص، قال - تعالى -: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ (108) سورة يوسف، فيه التنبيه على الإخلاص: لأن الدعوة لا تكون دعوة إلى الله إلا مع الإخلاص، وفي الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) «أخرجه مسلم»، ومن شروط وصفات الداعية: العلم، قال - تعالى -: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (9) سورة الزمر، وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (28) سورة فاطر، وقال - جلَّ وعلا -: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (11) سورة المجادلة، وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) «أخرجه البخاري».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب الاستقامة (2-233): (فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لا بد أن يكون مستصحباً في هذه الأحوال)، ومن صفات الداعية: الرفق، ولقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الرفق، فمن ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه) «رواه مسلم»، وعن جرير بن عبدالله - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يحرم الرفق يحرم الخير) «أخرجه مسلم»، وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) «رواه مسلم»، ومن صفات الداعية: الصبر، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (35) سورة الأحقاف، ومن صفات الداعية: تزكية النفس بالعبادة الواجبة والنوافل وقوة الصلة بالله - عزَّ وجلَّ -، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله - تعالى -، (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه...) «أخرجه الترمذي»، ومن صفات الداعية وما ينبغي أن يتحلى به، أن يكون عفيف اللسان، وأن يتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟) قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم: (المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) «رواه مسلم».
ومن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية، الحرص على سمت أهل العلم والبعد عن الجدال والمراء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا (58) سورة الزخرف، «أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح»، وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) «أخرجه أبو داود»، ومما ينبغي أن يتحلى به الداعية: حرصه على بيته وأهله ومن في محلته ومسجده، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (6) سورة التحريم.
أرسل الله - عزَّ وجلَّ - إلى أهل الأرض رسلاً، أرسلهم دعاة يدعون الناس إلى عبادة الله وحده واتباع أمره والتحذير من عصيانه، قال تعالى عن نوح - عليه السلام -: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) نوح، وقال - سبحانه -: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) سورة الأعراف، وقال سبحانه: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) سورة الأعراف، وهكذا فكل أنبياء الله كانوا دعاة إلى الله، ومنهم أبو الأنبياء وإمام الموحدين الحنفاء إبراهيم الخليل الذي أمر الله سيد المرسلين وخاتم النبيين باتباع ملته والتأسي بدعوته والاهتداء بهديه، كما قال - سبحانه -: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) سورة النحل، وقال - جلاَّ وعلا -: قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) سورة آل عمران.
وهذا هو ما كان عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال - تعالى -: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) سورة يوسف، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - في المسائل المأخوذة من هذه الآية: (أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ومن تأمل ما ورد في كتاب الله من الآيات التي تحكي قصص الأنبياء وخبرهم يجد أنهم - عليهم السلام - يبدؤون أمرهم بالدعوة إلى الله وتوحيده وترك الشرك والبراءة منه، كما دل على ذلك قول الله - عزَّ وجلَّ -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) سورة الأنبياء، وقال - جلَّ وعلا -: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (36) سورة النحل، قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أي: في كل قرية من الناس وطائفة رسولاً، وكلهم يدعو إلى عبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فلم يزل - تعالى - يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله - تعالى - : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) سورة الأنبياء، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) سورة الزخرف، انتهى كلام ابن كثير - رحمه الله -.
وكذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم داعياً إلى عبادة الله وتوحيده، ولهذا سُئل قومه عنه - عليه الصلاة والسلام - عما يقول لهم، فقالوا: يقول: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم) كما قال أبو سفيان لهرقل (أخرجه البخاري).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) (أخرجه أحمد والحاكم)، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله، وفي رواية (إلى أن يوحدوا الله) فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة: فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم: واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) (أخرجه البخاري ومسلم).
قال الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في مسائل (كتاب التوحيد) لما ذكر هذا الحديث: (البداءة بالأهم فالمهم).
ولما بين الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أنواع التوحيد الثلاثة تكلم عن توحيد الإلهية فقال: (النوع الأول): توحيد الإلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده. وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يجعل فيها شيئاً لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهما. وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) سورة الفاتحة، وقوله تعالى: وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) سورة هود، وقوله تعالى: فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) سورة التوبة، وقوله تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) سورة مريم، وقوله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) سورة هود، وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) سورة الفرقان، وقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) سورة الحجر.
وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قوله: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة، والخشية، والإجلال، والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة، وأشقياء أهل النار. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) سورة البقرة، فهذا أول أمر في القرآن، وقال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) سورة الأعراف، فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك، وقال هود لقومه: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) سورة الأعراف، وقال صالح لقومه: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) سورة هود، وقال شعيب لقومه: اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (85) سورة الأعراف، وقال إبراهيم عليه السلام لقومه: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) سورة الأنعام، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) سورة الأنبياء، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) سورة الزخرف، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) سورة الذاريات، وقال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول لكم؟ قال: يقول: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهاة ألا إله إلا الله) وفي رواية (أن يوحدوا الله) وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف، لا النظر والقصد إلى النظر ولا الشك في الله، كما هي أقوال لمن لم يدر ما بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من معاني الكتاب والحكمة، فهو أول واجب وآخر واجب، وأول ما يدخل به الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) (حديث صحيح)، وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) (متفق عليه).
والدعوة إلى التوحيد منطلق الدعاة حتى وإن ظهرت بعض المخالفات الأخرى ولو من الكبائر، فالتوحيد هو المقدم، فهؤلاء قوم لوط أظهروا الفاحشة وجهروا بها ومع ذلك كان أول ما أمرهم به هو التوحيد، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)، فدعاهم إلى الله عز وجل، أن يعبدوه وحده ولا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم، مما لم يسبقهم الخلائق إلى فعله، من إتيان الذكور دون الإناث) أهـ.
وقال ابن سعدي: (واذكر عبدنا (لوطاً) عليه الصلاة والسلام، إذ أرسلناه إلى قومه يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين) أهـ، وقال أيضاً: (فأرسل الله لوطاً إلى قومه، وكانوا مع شركهم، قد جمعوا بين فعل الفاحشة للذكور، وتقطيع السبيل، وفشوا المنكرات في مجالسهم، فنصحهم لوط عن هذه الأمور وبيّن لهم قبائحها في نفسها، وما تؤول إليه من العقوبة البليغة، فلم يرعووا ولم يذكروا) أهـ.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ الأعراف: 81، قال: (بل أنت قوم مسرفون نظيره بل أنت قوم عادون في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة).
وعلى مر التاريخ الإسلامي خرجت دعوات كثيرة وإذا تأملنا بعين المنصف المدقق المدرك لمآلات الأمور نجد أن النجاح والتوفيق والبركة كانت حليف من جعل الدعوة إلى التوحيد أساساً ومنطلقاً وكانت دعوة قائمة على علم وليس مجرد حماس وعاطفة ورغبة في الإصلاح مجردة فبقي أثرها وعم نفعها ومن نماذج ذلك آثار إمام أهل السنة الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيميمة، والإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله، بينما رأينا دعوات لم تبن على التوحيد ولم يقم عليها العلماء بل قامت بدعاوى إصلاح سياسية أو فكرية أو غيرها وأنتجت أحزاباً وتنظيمات وبذلت فيها جهود وحظيت بهالة إعلامية وشعبية ولكن ما النتيجة؟ مزيداً من سفك الدماء وإهدار مقدرات الأمة ولا أثر حقيقي لها في تعبيد الناس لرب العالمين وتحقيق التوحيد وهي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان وأرسلت لأجلها الرسل.
ومن الشبهات التي تثار على دعاة التوحيد أن التوحيد مفهوم ولا يحتاج إلى تعليمه ومدارسته، وإنما الناس بحاجة إلى تعلم بقية أمور الدين.
وهذه الشبهة أجاب عنها ابن القيم - رحمه الله - في إغاثة اللهفان (1-214): قال: (فإن قيل: فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها مع العلم بأن ساكنيها أموات لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، قيل: أوقعهم في ذلك أمور منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جميع الرسل، من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم جداً من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما عندهم من العلم).
وأجاب عن هذه الشبهة أيضاً الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-، فإنه لما ذكر قصة سبب وقوع الشرك في قوم نوح التي أخرجها البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث قال: (... حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت) قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في مسائل كتاب التوحيد لما ذكر هذه القصة (التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم ففيها بيان معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده).
وذكر الشيخ - رحمه الله - في كشف الشبهات قصة قوم موسى عليه الصلاة والسلام حين قال له قومه: اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ (الأعراف: 138)، وقصة ذات أنواط التي حدثت في حضرة خير البشر نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم - بل العالم - قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيد فهمناه، أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان).
إذاً فالدعوة إلى الله تهدف إلى نشر الدين الحق بعقيدته الصحيحة الصافية التي هي الهدف من خلق الكائنات وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون (الذاريات: 56)، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة: 5)، وهي الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
يحرص الداعية على توضيح العقيدة. لماذا؟ لأنه مع فساد المعتقد والانحراف في جانب التوحيد تضيع أعمال الإنسان الأخرى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23) سورة الفرقان، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (103-104) سورة الكهف.
لذلك لما أخبر الله نبيه بعد أن ذكر له عدداً من الأنبياء قال: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (88) سورة الأنعام، فبإشراكهم حبطت كل أعمالهم مع أنهم أنبياء الله، فكذلك الداعية يرسم أمامه هذا الأصل وهو عبادة الله على عقيدة سليمة.
والدعوة إلى التوحيد هي سبيل الرسل عليهم الصلاة والسلام ووظيفتهم، وهي وظيفة الدعاة من بعدهم من علماء الأمة ومن سلك سبيلهم، فالتوحيد هو الأساس الذي تبنى عليه سائر الأعمال، فلا يصح ولا يقبل عمل من الأعمال إلا بعد توحيد الله عز وجل، وما من رسول أرسل إلى قومه إلا دعاهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، فعقيدة التوحيد هي أصل الدين وجوهر الإيمان ورسالة النبوة كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) سورة الأنبياء، وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية بل لابد أن يجتمع نوعا التوحيد توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، فالأول إثبات حقيقة ذات الرب وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن يشاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره، والثاني إفراد الله بالعبادة وهو توحيد الله بأفعال العباد بمعنى أفعالنا التي تصدر منا من دعاء واستغاثة وتوكل وذبح ونذر.. الخ من أنواع العبادة، فنفرد الله ونخصه بها، فهو سبحانه المستحق للعبادة وحده.
كما أن دعوة الداعية إلى الله إلى هذا الدين الصحيح تكون وفق كلياته الخمس، والتي جاء الشرع الحنيف لحفظها، وهي: (حفظ الدين - وحفظ النفس - وحفظ العقل - وحفظ النسب - وحفظ المال)، وكلها ضروري، يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (ومجموع الضرورات خمسة، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وهذه الضرورات إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج (أي: اختلاط)، وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين) (الموافقات 2-8).
ومن خلال معرفة الداعية لـ(غاية الدعوة) يكون شمولياً في دعوته، فاهماً لفقه الأولويات، عارفاً بترابط الحياة الدنيا مع الآخرة، متفهماً الصلة بين مسائل الدين.
إذاً وبمقتضى الدعوة إلى الله على بصيرة يتبين لنا أن الدعوة إلى الله علم، فلا يقبل من أحد أن يدعو إلى شيء لا يعلمه، والعلم هو زاد الدعاة في طريق الدعوة إلى سبيل الحق والخير والنور.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ محمد19، فبدأ الحق تبارك وتعالى في هذه الآية بالعلم قبل العمل.
إن التعرف على المنهج النبوي في الدعوة يمكن الدعاة من ترتيب أولويات دعوتهم من غير اعتساف لخطوات المنهج أو قفز على المراحل، ومن هنا يتبين أن الدعوة إلى الله رسالة لابد من إيصالها إلى الناس، ولما كانت هذه الرسالة ربانية فإن منهج تقديمها للناس رباني بالضرورة ولمعرفة هذا المنهج لا بد من النظر في أسلوب الداعية الأول الذي نزلت عليه الرسالة فقد كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التطبيق العلمي لهذا الدين والمجتمع يريد من الداعية إلى الله أن يكون مراعياً لمقاصد الدعوة، فلا يكون بعزلة عن وقائع المجتمع وما تتطلبه ظروف الحياة، ففي هذا الزمن يكون من الإهمال والتقصير من الداعية مثلاً أن لا يرى له مشاركة في تبصير الناس بواجبهم تجاه ولاة أمرهم خصوصاً في زمن الفتن وكثرة الشبهات مع استفاضة الأخبار بلزوم الجماعة وطاعة ولي الأمر.
وقد لا يستشعر بعض الناس أهمية الحديث عن مثل هذه المواضيع إلا في مثل هذه الأوقات، لأنه في وقت الفتن يعرف الناس بالمشاهدة فائدة هذه النصوص المتكاثرة في مسألة السمع والطاعة والجماعة ووحدة الصف.
ويعرف الناس وقت ورود بعض الخلل الأمني الأثر الحسن للتلاحم بين الحاكم والمحكوم، وقت فقدان الأمن يعرف المجتمع أهمية الأمن، وأنه بدون الأمن فإنه مهما أوتي المرء من متاع الحياة، فهي لا تساوي شيئاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه - أي نفسه - معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا) الترمذي 2346.
ومن المعلوم أن الدعوة لا تنمو إلا في ظل دولة تحوطها وتؤازرها وتؤيدها مما يوجب عليه الالتزام بالمنهج الشرعي في علاقة المسلم بولي الأمر التي مبناها على السمع والطاعة بالمعروف في العسر واليسر والمنشط والمكره حتى ولو حصل من ولي الأمر ما يكرهه، والاستهتار بولي الأمر أو إظهار ما يشعر الآخرين بمخالفته له عواقب لا تحمد ونتائج لا يفرح بها إلا من كان في قلبه زيغ أو هوى، وما نراه اليوم من فتن وما عايشناه من أحداث مفجعة نتيجة طبيعية للتخلي عن المنهج الشرعي في ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم والراعي والرعية، فخرج من خرج عن السمع والطاعة فماذا كان؟ كان القتل والتدمير والترويع ومحاولة إدخال البلاد في نفق مظلم من الفوضى وكأننا لم نستوعب ما سجله التاريخ الإسلامي من أحداث كان رائد مرتكبيها الإصلاح وشعارهم نصرة الدين وكأننا لم نحسن قراءة ما حصل في البلدان الأخرى.
إن منازعة السلطان في سلطانه أو سلوك منهج غير شرعي في مناصحته خدمة عظمى لأعداء الأمة المتربصين بها الدوائر وحين نقر الجرأة على ولي الأمر من أي إنسان كان فإننا لا نخدم الدين ولا نخدم الوطن ولا نخدم حتى مصالحنا الخاصة وإنما نخدم القوى العالمية الباغية التي تريد زعزعة أمن بلدان المسلمين وتفريق أهلها وتدمير نظمها حتى تمهد لها الطرق لاستغلالها ونهب خيراتها أو حتى احتلالها، وهي لن تستطيع تحقيق ذلك إلا بإثارة الشحناء بين أبناء البلد الواحد وإذكاء نار الفتنة بينهم ولو برفع شعار الإصلاح أو الدعوة أو محاربة المنكرات أو التقدم أو رفع الظلم..الخ، فلنكن من ذلك على حذر، ولنقطع الطريق على كل معتمد أثيم من أي جنس أو لون، ولنجتث جذور نبتة الفتنة في بلادنا ولنضع أيدينا في أيدي علمائنا وولاة أمرنا صفاً واحداً ويداً واحدة لا نصدر إلا عن آرائهم ولا ندين بالسمع والطاعة إلا لهم، وكوننا نخضع لولي أمر مسلم مهما كان من قصور خير من أن نخضع لكافر بغيض أو منتسب للإسلام زوراً وبهتاناً، فكيف إذا كان لهذا الإمام المسلم من صحة الاعتقاد واتباع السلف وله من الأعمال الإسلامية الجليلة والجهود المباركة في الدفاع عن الدين وخدمة المسلمين ونصرة قضاياهم وإغاثة منكوبيهم ما هو محل الفخر والاعتزاز من كل منصف، بل هو وإخوانه سلالة شجرة كريمة وأسرة عريقة لها فضل بعد الله في توحيد هذه البلاد، وإخراجها من ظلمات الشرك والجهل والتمزق، إلى نور التوحيد والعلم والوحدة والأمن.
ولنستحضر أنه في الوقت الذي يغرس بعض أبنائنا خنجرة في ظهر أمته وخاصرة بلده تزداد الحملات المسعورة ضد هذه البلاد وقيادتها تتهمهم بأنهم متطرفون وأصوليون وأن هذه الدولة دولة دينية متشددة فانظروا أيها العقلاء كيف تتلاقى المصالح وكيف يخدم بعض أبناء الإسلام من أبنائنا بحماقتهم وجهلهم أعداء الإسلام وكيف يخالفون الدين باسم نصرته كيف يسعون في الأرض فساداً بدعوى أنهم يريدون الإصلاح ألا ساء ما يحكمون ويقدرون ويقولون إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ الأعراف155
* وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد وأستاذ الدراسات العليا