يتكون المجتمع الإنساني من مجموعة من الناس.. وهذا هو التصور المتبادر للذهن حين نقصد توضيح: ما هو المجتمع الإنساني؟
لكن إذا أردنا أن نكون أكثر دقة في بيان ماهية المجتمع الإنساني، فإنه يمكن أن نقول: إنه توليفة من الإنسان والحيوان والأشياء والموضوعات الحسية والمعنوية في حدود الزمان والمكان.
وقد يكون غريباً عدُّ هذه المفردات:.. الحيوان - الأشياء - الموضوعات.. في ماهية المجتمع الإنساني، بيد أن الغرابة تتلاشى عند التأمل في: « طبيعة المجتمع الإنساني «باعتباره مجموعة من العلاقات والمؤثرات المتبادلة التي تكوِّن هذا المجتمع. ولو وجد الإنسان بدون ما ذكر معه لما استطاع أساساً أن يكون مجتمعاً أو يصنع وحدة متفاهمة لها علاقاتها وارتباطاتها.
وطبعاً: إن الإنسان بأصالة التكريم، وفطرة الخلق هو محور هذه الأشياء كلها، لا سيما وهو الوحيد من بينها الذي اختصه الله تعالى بطبيعة التفكير التي من خصائصها: الإدارة والتوليد والتحوير.
وحين نفهم مجتمع الإنسان على هذا النحو من التكوين، فإن ذلك يعطينا حقيقتين مهمتين لا ينبغي أن يغفل عنها علماء المجتمع وعلماء العمران الذين قال لهم أرسطو يوماً ما: لا يجب الخلط بين المدينة العظيمة والمدينة العامرة بالسكان. هاتان الحقيقتان هما:
أ- أن من طبيعة المجتمع الإنساني التركيب، وحين نفهمه مركباً فإن ذلك مفتاح لتحليل قضاياه، وبالتالي علاجها.
ب- والحقيقة الثانية: أن المركب له علله، وله علله المركبة أيضاً، ولا يمكن بأي حال أن يوجد مجتمع كامل دون علل، ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كمل من الرجال كثير، لكنه عليه السلام لم يذكر عن مجتمع واحد أنه كامل، بل قال: خير القرون قرني ثم الذي يلونهم ثم الذين يلونهم.
وإذا كان للمجتمع علله المركبة، فمعنى ذلك أن حلوله سيكون لها -أيضاً- نوع من التركيب. ومن شواهد التاريخ والحضارة: أن الإصلاح لا يكون إلا بحزمة من الحلول التي يكون لها وحدتها الموضوعية، وبدون هذه الوحدة الموضوعية، فلربما هدم حلٌّ حلاًّ، وهذه عجيبة من العجائب تستدعي الدهشة والاعتبار.
ولكي نصل إلى علل التركيب، فلا بُدَّ أن نعرف كيف تكون هذا المركَّب، ولن نعرف كيفيته ما لم نكتشف العلاقات التي تربط بين مكوِّنات هذا المركَّب من إنسان وحيوان وموضوعات.
وفهم «العلاقات» هذه لها أهميتها الخاصة في سموِّ التفكير ورقي المجتمعات وتقدم الأمم، وهو مرحلة متقدمة من الفهم والإدراك، لكنها -بالتأكيد- تأتي بعد مرحلة: «قراءة الأشياء نفسها» ومن نتائج الدراسات للحضارات سواء في القديم أو الحديث: أنَّ كثيراً من الأمم لم تنل حظها من الرقي والتقدم، لا بسبب فقدها لقراءة «الأشياء» بل بسبب فقدها لقراءة «العلاقات بين الأشياء»، إذ إن قراءة العلاقات هذه هي التي تدل على السبب والنتيجة، والمؤثر والأثر، كما أنها تتيح التصور الكامل عن القضايا والموضوعات والذي يعني فهم الكليات بجزئياتها، ولا يمكن أن تفهم الكليات مع الجزئيات إلا بفهم العلاقات، ومتى ما فقدت العلاقات؛ فقد انفكت الرابطة ما بين الكليات والجزئيات، فيبقى الإنسان ما بين كلي -لا يستطيع تشخيصه، أو جزئي لا يحسن تطبيقه، ولا بُدَّ -كما يقول ابن تيمية- أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم.
وفهم موضوعات الحياة على هذا النحو من العلاقات يقدَّم الحياة كلَّ الحياة، أو -في الحقيقة- يساعدنا على اكتشاف الحياة في صبغتها الفطرية التي أبدعها الخالق سبحانه، والحياة إذاً: رسم لوحة لا حلَّ مسألة حسابية. كما يقول الشاعر والكاتب الأمريكي «أوليفر وندل هولمز».
وبفهم «العلاقات» سندرك أننا بحاجة إلى اكتشاف ما هو موجود، أكثر من حاجتنا إلى ابتكار ما هو غير موجود، وقد نتساءل: هل صحيح أنه لا جديد في الدنيا، لكن هناك الكثير من الأشياء القديمة التي لا نعرفها؟ كما يؤكد «أمبروس بيرس الصحفي والكاتب الأمريكي» وقد يوحي عرضنا هذا: أن فهم « العلاقات» هو ذو شأن فكري بحت، ربما لا يقوم به إلا الفلاسفة والمفكرون، ومن يعانون اكتشاف العلل في النظريات والرؤى والتطبيقات، لكن الحقيقة أن فهم «العلاقات» تتسع دائرته لكل شؤون الحياة؛ لأنه بكل بساطة لا تسلم هذه الشؤون من رابطة العلاقات، وبالتالي الحاجة إلى فهمها وتحليلها واستخلاص نتائجها.
ومن تلك الشؤون على سبيل المثال: «العلم»، فالعلم باختلاف أنواعه ومتعلقاته لا تستطيع أن تتصور قضاياه، وتحكم في مسائله وفرضياته، دون أن يكون لديك القدرة التي تقوى بها على فهم «العلاقات» بين أشيائه وموضوعاته، سواء كان هذا العلم من علوم المسلمين الشرعية، أو من علوم البشر البحتة.
ففي العلوم الشرعية، فإن ما اصطلحنا عليه بـ «العلاقات» قد يعني: الأحوال، والقرائن، والسياق وغير ذلك مما يحتفي بالنص أو الواقعة، وللبخاري إشارة إلى ذلك في كتاب الاعتصام من صحيحه حيث ترجم بـ: باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحضَّ على اتفاق أهل العلم، وما أجمع عليه الحرمان: مكة والمدينة، وما كان بهما من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ومصلى النبي والمنبر والقبر.
والعلم الشرعي يبحث عن كل ما يسند الفهم ولو من مسلك خفي أو رابطة بعيدة حتى قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: العلوم كلها أبازير الفقه -ثم قال -: لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم.
وفي العلوم التجريبية نقف مع هذا التساؤل الذي يطرحه العالم الرياضي الفرنسي، والباحث في المناهج العلمية ونقد العلم: «بونكاريه»، فهو يقول: حين نتساءل: ما هي القيمة الموضوعية للعلم؟ فإن هذا لا يعني: هل العلم يجعلنا نعرف الطبيعة للأشياء، بل معناه: هل هو يجعلنا نعرف العلاقات الحقيقية بين الأشياء؟
ويبدو: أن نظرية «العلاقات» هذه واضحة جداً في عقل ومنهج «بونكاريه»، فهو يحددها بدقة في علم الفيزياء بالذات، بل قد نقول: إنه يستشعر وهجها، ويتراءى ظلالها في قوله: إنَّ الواقعة المنعزلة تلفت كلَّ الأنظار: نظر الرجل العادي ونظر العالم، لكن الشيء الذي لا يستطيع أن يراه غير العالم الفيزيائي الحقيقي هو الرابطة التي توحد عدة وقائع تماثلها عميق، ولكنه خفي.. إنه يستشعر تحت الواقعة الغليظة روح الواقعة.
إن الاقتناع بما اصطلحنا على تسميته بنظرية «العلاقات» ومحاولة تطبيقها في موضوعات الحياة، لا سيما تلك التي تمس المجتمع يتيح لنا التحليل الأمثل لكثير من تداخل الموضوعات. ومن تلك الموضوعات، موضوعان مهمان في حدَّ ذاتهما، فكيف إذا تبين أن ثمة اشتراكاً بينهما؟
هذان الموضوعان هما: الفتوى والتنمية. فالأول: يهم جماعة المسلمين في كل البلدان باعتباره مسلماً، وباعتبارها أي الفتوى: تعبير عن الرأي الشرعي لدى المفتي في واقعة ما تهم هذا المسلم.
والثاني -أي التنمية-: يهمّ جماعة الناس على جميع وجه الأرض باعتباره إنساناً مفطوراً على التقدم والنماء.
إذاً: مسلم وإنسان.. وإسلام وإنسانية، وحين نرسم هذا العنوان: الفتوى وسؤالات التنمية، فإننا نضع أيدينا على العلاقة الكامنة بينهما في هذه السؤالات.
ومن الطبيعي أن يكون للتنمية أسئلتها، ليس إلى الفتوى فحسب، بل إلى كل فعاليات المجتمع وموضوعاته، وهذا من طبيعة التنمية وجوهرها، كونها القلب النابض والمحرِّك لأي مجتمع يطمح إلى التقدم والرقي، ولا عجب إذاً أن تسأل التنمية حتى الناس عن أسلوب حياتهم الذي يؤثر في طبيعة التنمية، ولها أسئلتها أيضاً عن حقوق الناس والذي يحدد كثيراً اتجاه التنمية، لكنها لن تكون تنمية حقيقية تقدم حضارة رائدة ما لم تسأل عن واجبات الناس، لأن القيام بالواجب هو الذي يبني الوطن والأمة والحضارة، أما الحق فهو يحصل كثمرة للواجب، ومتى ما عُكست المعادلة فسبقت المطالبة بالحقوق القيام بالواجبات فلا تسأل عن الدمار والخراب والتنازع والأثرة، وهذا ما يقرره عدد من المفكرين من مختلف الحضارات، ومن ذلك ما تقوله الزعيمة الهندية انديرا غاندي - ناعيةً شأن بعض الناس: «يميل الناس إلى نسيان واجباتهم وتذكر حقوقهم». ويقول الكاتب الفرنسي انطوان دوسانت: «تبنى الحضارة على ما يطلب من الناس لا على ما تقدمه لهم».
والملفت للنظر أن هذا المغزى الحضاري العظيم أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من دون أن يلتفت إليه أحد فيما أعلم، وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الانصار كما في الصحيح والمسند - أنهم سيلقون بعده أثرة أي منعاً لبعض حقوقهم. قالوا: فما تأمرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أدوا الحق الذي عليكم، وسلوا الله الذي لكم.
ففكرة الواجب هنا مقدمة على فكرة الحق، وإن كان كثير من الناس -ربما- لم يدرك آثار هذا التصور ومآلاته في بناء الأمم وتقدم حضاراتها، مثلما لم يدرك بعض الصحابة رضي الله عنهم المآل الحسن لصلح الحديبية عند إجرائه.
المهم من ذلك: أن للتنمية أسئلتها التي لا يختص بها شأن دون شأن، وإذا كان لها أسئلتها الموجهة للفتوى، فإنه ينبغي على الفتوى أن تدرس الأوصاف الإجمالية لمسائل وقضايا التنمية، ليكون لدى الفتوى الفقه المناسب الذي تستطيع أن تحل به ما يخصها من إشكالات التنمية واستفهاماتها.
- فمن تلك الأوصاف: أنها فطرية، ذلك أن التنمية الحقيقية تتماشى قضاياها مع فطرة الإنسان الذي هو بطبيعته (حارث وهمام) وقد خلقه الله عز وجل قادراً على عمارة الأرض والاستخلاف فيها، ومن فقه علمائنا تقريرهم: أن الحضارة الحق من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة، وأن أنواع المعارف الصالحة من الفطرة لأنها نشأت من تلاقح العقول وتفاوضها، وأن المخترعات من الفطرة لأنها متولدة عن التفكير.
ومن المعلوم أن الشريعة دين الفطرة، ولذلك فإدراك العالم -بكسر اللام- هذا القدر المشترك في الوصف الفطري ما بين التنمية والشريعة يساعده جداً على تفهم قضية التنمية، وإفهام الناس بما يشكل عليهم من قضاياها، ذلك: «أن من أعظم ما اشتمل عليه خلق الإنسان قبوله التمدن، الذي أعظمه وضع الشرائع له، وما أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الشرائع إلا لإقامة نظام البشر، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (25) سورة الحديد.
- وتتصف قضايا التنمية بأنها أيضاً مصلحية، وهذا الوصف في حقيقته ينبني على الفطرة أيضاً، لأن الإنسان بفطرته يبحث عن ما يلائمه من مصالح ويبتعد عن المفاسد، وكل قضايا التنمية تصب في تحقيق المصالح لأن التنمية لا يمكن أن تكون ويتحقق النمو المقصود ما لم تكن مؤسسة على تحقيق أكبر قدر من المصالح، وإذا كان هذا الشيء من طبيعة التنمية فإن الشريعة أيضا -كما يقول العز ابن عبدالسلام- معظم مقاصدها الأمر باكتساب المصالح وأسبابها والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها.
وإذا أدركنا هذا القدر المشترك من القصد المصلحي ما بين التنمية والشريعة فإن من وسائل التنمية لتحقيق المصالح التدرج في تحقيقها، لأنه ليس من المنطقي ولا أيضاً من المستطاع استهداف المصالح دفعة واحدة وقد يأتي ذلك بنتيجة عكسية، ويقابل تدرج التنمية في تحقيق المصالح مراعاة الشريعة للمصالح وفق أهميتها.
فتراعي أولاً: الضرورية ثم الحاجية ثم التحسينية، والتنمية إذ تتبع هذا التدرج فإن من أهدافها المتوخاة في نهاية الأمر التوسعة على الناس، يقابل ذلك في الشريعة وصف السماحة الذي هو أول أوصافها وأكبر مقاصدها وأن الشريعة ليست بنكاية كما يقول الطاهر ابن عاشور ومن فقه سلفنا الصالح: أن الإمام ابن عيينة سئل عن معنى قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (286) سورة البقرة، فقال: إلا يسرها ولم يكلفها إلا طاقتها. قال البغوي: وهذا فقه حسن لأن الوسع ما دون الطاقة.
وإدراك هذا القدر المشترك ما بين التنمية في التوسعة والشريعة في السماحة يؤسس مجالاً رحباً من التنمية التي تنشد سعادة الإنسان والمجتمع وصلاحهما، وتحقيق ما يسهل الحياة وييسرها، ليس في مجال الضروريات، والحاجيات فحسب، بل حتى في مجال التحسينيات الذي يقابله في مشاريع التنمية ما يمكن أن نسميه بـ «التأنق والترفه»، بل إن ذلك: أي التأنق والترفه يدخل عند سلامته في مقصد شرعي عظيم يتلخص في رواج المال، أي: «دورانه بين أيدي أكثر ما يمكن من الناس بوجه حق» ومن وسائل ذلك: تشجيع المشروعات والمنتجات والمبتكرات والتي يترفه بها الناس وترضي أذواقهم على وجه مباح، ويؤدي إلى دوران المال بين أيدي المجتمع، ويشجع أيضاً على: «ظهور مواهب أهل الصنائع والفنون في تقديم نتائج أذواقهم وأناملهم، وهذه النفقات هي المشار إليها بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (32) سورة الأعراف، وليراجع كلام ابن عاشور في ذلك.
- ويمكن أن توصف قضايا التنمية - أيضاً - بأنها مركبة، فإن التنمية وإن كان هدفها مصلحياً كما تقدم، إلا أن من طبيعة الحياة أنه لا توجد مصلحة محضة، ولا مفسدة محضة في الغالب، ولذلك تجد قضايا التنمية -مثلاً- مركبة في كثير من الأحيان من نقاط من الإيجابيات ونقاط من السلبيات، ولا يكاد يمرُّ يوم واحد لا يُسمع فيه نقاش حول قضايا تنموية في هذا البلد أو ذاك فبعضهم يغلب جانب الإيجابيات ويطالب بإقرار ذلك المشروع، والبعض الآخر يغلب السلبيات فيطالب بمنعه.
- وتوصف قضايا التنمية -أيضاً- بكونها شاملة، أي تهم جميع الناس، وتعالج سائر شؤونهم، وإذا كانت التنمية بهذا الشمول والعموم فإنه فيما يخص الفتوى لا يسوغ بحال أن يفتي في قضية تنموية فرد هنا أو هناك، بل إن ذلك متروك لمؤسسة الفتوى المعتبرة، وهذا يتطلب قدراً من الاجتهاد الجماعي كما سيأتي.
- ومن أوضح ما يمكن أن توصف به قضايا التنمية بأنها جديدة أو متجددة، وهذه الجدة تفرض على الفتوى الاجتهاد الذي يعني بذل الوسع والطاقة في سبيل الوصول إلى الرأي الشرعي الصحيح تجاه أي نازلة جديدة.
وسندرك من خلال هذه الأوصاف المتقدمة لقضايا التنمية في فطريتها ومصلحيتها وتركيبها وشمولها وجدتها، مقدار الجهد البالغ الذي ينتظر الفتوى للإجابة عما يخصها من سؤالات التنمية، وهذا الجهد الذي بذلته الفتوى أو ستبذله يتجه في ناحيتين لا ثالث لهما: إما في التنظيم وإما في الموضوع.
أما التنظيم: فيتجلى في مؤسسة الفتوى التي لها دوائرها العلمية ودوائرها البحثية، فالعلمية تجمع جمهرة كبار العلماء بحيث يصدر الرأي الشرعي عن جمع مبارك مختار من ولي الأمر لهذه المهمة العظيمة كما هو الحال الآن في هيئة كبار العلماء بالمملكة والدوائر البحثية تقوم بكل ما من شأنه دراسة الموضوع بأبعاده الشرعي والإنساني والاجتماعي، ولا يخفى أن ذلك يتطلب نوعية من الباحثين على قدر متميز في تخصصاتهم، وأيضاً تنوعاً في تخصصاتهم.
وأما الموضوع: فإن التنمية تستدعي من الفتوى قدراً كبيراً من الاجتهاد بإدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، ومعرفة الحِكَم والمعاني التي تضمنتها.
وعند تعامل الفقيه مع قضايا التنمية فإن من أهم المسالك التي سيسلكها مسلك المصالح المرسلة.
ومعنى كونها مرسلة: «أن الشريعة أرسلتها فلم تنط بها حكماً معيناً، ولا يُلفى لها في الشريعة نظير معين له حكم شرعي فتقاس عليه».
وإذا علم ذلك، وعلم ما انطبع عليه زماننا من تجدد القضايا وكثرة النوازل.
فإننا ندرك أن طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير نوازل المجتمع ونوائبه الشرعية.
وهو في الحقيقة -أي تقدير المصالح والمفاسد- مقام مرتبك تتفاوت فيه مدارك العقلاء وسبب ارتباكه أنه كما تقدم لا يوجد قضية أو مشروع تتمحض فيه المصالح في الغالب ويسمي ذلك الشاطبي الفعل ذا الوجهين ويقول عن ذلك: «ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة، فإذا رجحت المصلحة فمطلوب ويقال فيه: إنه مصلحة، واذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة على ما جرت به العادات في مثله».
ويعبر ابن تيمية عن هذا الارتباك بقوله: «فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين». وحينئذ وخروجاً من هذا الارتباك فلا بد من إعمال قاعدة: «الموازنة بين المصالح والمفاسد» وهي قاعدة عظيمة لها شواهدها الكثيرة من الكتاب والسنة، وهي تضمن -عند القدرة على إجراءها الإجراء الصحيح- رفع الحرج عن الأمة والتوسعة عليها، والتطبيق الأمثل للمفاهيم الشرعية والمشاريع الحضارية. لكن الذي ينبغي التنبه له أن قاعدة «الموازنة» هذه كل يدعي إعمالها والنظر فيها وإليها فهل هذا يكفى لتطبيقها؟ لا يكفي ذلك لتطبيقها التطبيق الصحيح إذ ليس المهم هو الاهتمام بهذه القاعدة ومحاولة إعمالها، بل لا بد مع ذلك وقبله من أن يتوفر فيمن ينظر في قاعدة موازنة المصالح والمفاسد «فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد» فإن الشخص الذي لا يتوفر لديه فقه الموازنة سيرتبك كثيراً عند تطبيق قاعدة الموازنة، ولربما اختل النظر عنده حتى في النظر إلى المصالح بخصوصها، فقد يقدم -عند الاعتبار والنظر- بعض المصالح الحاجية على الضرورية، أو يراعي بعض المصالح الجزئية ويغفل عن الكلية، أو يغتر ببعض المصالح الوهمية فتقطعه عن أخرى ظنية أو حتى قطعية، والسبب في ذلك كله: أنه ليس فقهياً في «الموازنات» والذي يتطلب أمرين مهمين ليكون فقهياً فيها، وهما:
الأول: فهم مقاصد الشريعة. وهذا الفهم يمكنه من الاستنباط، وعند تمكنه من هذا الفهم سيدرك فيما يتعلق بموضوعنا أن: «المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان «والثاني أن يتمكن من فقه أصول الشريعة وفروعها بحيث: «يسهل عليه درك أحكام الشريعة» بتعبير الجويني في «البرهان» ومتى ما تمكن الفقيه من ذلك فسيترتب له أمران: أ- أنه سيجيب على السائل بحسب ما يليق به.
ب- وأنه سيعتبر المآلات قبل الجواب عن السؤالات. وهنا لا بد أن نسجل بعض الملاحظات التي لعلها تتمم بعض النقص في هذا الموضوع المهم للغاية، فمنها:
الملاحظة الأولى: أنه تحصل الجناية على الفتوى وعلى التنمية أيضاً إذا تصدر للفتيا في سؤالات التنمية من ليس أهلاً سواء في فقه الفتوى أو في فقه التنمية، ذلك أن من فقد فقه الفتوى فقد فقد فقه العلم والآلة، ومن فقد فقه التنمية فقد فقد فقه الموضوع «صورة ومآلات»، ومن المشكلات أن: « يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين -ولم يبلغ تلك الدرجة-، فيعمل على ذلك، ويعدُّ رأيه رأيا، وخلافه خلافاً».. ولذلك كان من حكمة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- قصر الفتوى فيما يخص قضايا العموم على هيئة كبار العلماء حسماً لهذه الإشكالات.
الملاحظة الثانية: إن بعض القضايا التنموية ليس من المصلحة أن توضع موضع التنفيذ دون ضمانات تحقق المصالح وتدرأ المفاسد، وفي المقابل ليس من المصلحة الكفُّ عنها ورفضها بداعي أن السلامة أولى، وقد يؤيد بعضهم موقف السلامة هذا بالورع في الدين، وهذا فهم خاطئ للورع، فالورع حقيقة هو: «أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع».
وللأسف فإن كثيراً من الناس يجيد موقف الرفض والمنع في موضوعات لها أهميتها ومكانتها، وقد يتكلم في هذا باسم الدين، والرفض البات والمنع المطلق يجيده كل أحد، لكن الفقه الذي يستوعب الزمان والمكان وينظر بعيني الحال والمآل هو الذي يرسم الحلول ويوجد المخارج الصحيحة كما قال سفيان الثوري: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، وأما التشديد فيحسنه كل أحد.
الملاحظة الثالثة: تعتبر المملكة العربية السعودية من الدول القليلة إن لم تكن الوحيدة في عالمنا الإسلامي والتي قدمت تنمية تتسم بأصالتها ومعاصرتها وفق فهم إسلامي معتدل، يراعي المصالح والمفاسد، مما يجدر بالباحثين والدارسين دراسة هذه التجربة وكيف وفقت بين مفهومها الإسلامي وسعيها الحضاري، والذي لا يزال يشتد ويقوى في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، الذي أعطى التنمية دفعات إثرها دفعات مباركاً لها باسم الله.
* الأمين العام لهيئة كبار العلماء