ولما كان هذا الملتقى بصدد قراءة هذا اللون من الدراسات وتقويمها وتوصيفها، كان لزاماً علينا تحري الصدق، وتوخي الإنصاف. فالدارسون لهم وعليهم، وليسوا سواء في إمكاناتهم ومقاصدهم، وحق أدبنا علينا أن نيسره للدراسة، عسى أن يتضاعف عدد الدارسين، إذ من خلال الدراسات..
..المتعاقبة نخترقُ أجواءَ الآخرين، ونعيش حضوراً مماثلا لحضورهم في مشاهدنا، فما كان لأدبنا أن يشاطر الآداب الأخرى اقتسام المشاهد، لولا اعتوارُه بالأقلام الجادة والمتمكنة من فنها. من محققات المصداقية أن نشيد بجهود فردية بادر إليها أدباء وشعراء سعوديون، واستطاعوا بجهودهم الشخصية تجسير الفجوات بين أدبنا وسائر الآداب العربية. وإذ أشرنا إلى إسهام مؤسسات ثقافية، كالأندية، فإن من العدل والإنصاف أن نشيد بجهود شخصية استطاع ذووها من الحضور المبكر في مشاهد الآداب العربية.
لقد كان للهجرة الاضطرارية أو الاختيارية التي قام بها بعض الأدباء إلى مصر أثرُها في التواصل المبكر مع الأدباء العرب، نجد ذلك عند (عبد الله عبد الجبار) و(حمزة شحاته) و(إبراهيم فلالي) و(حسن القرشي)، وبعد جيل الريادة خلف جيلُ التأسيس الذي ابتدره الشباب، خاصة (الأكاديميين) منهم، فلقد جُسِّرت الفجوات، وزاد التواصل، وتبادل أدباء العرب ونقادهم المواقع، وكانت الخلطة التي نرقبها منذ أزمان. وإن كان ثمة شوائبُ عكرت صفو هذا الحراك، فإنها شوائب لم تلبث أن ضوت. والمعارك الأدبية التي خاضها بعض الأدباء، لم تزد الأدب إلا تجذراً وانتشارا، والذين امتعضوا من تلك النبرات الحادة، اكتشفوا أنهم على غير هدى. فالمعارك الأدبية مؤشر حيوية، وسبيلُ ثراء، وطريقٌ للتعريف بمنطويات الأدب في البلاد. ولقد كنت واحداً ممن خاض تلك المعامع، ولقي في مشواره بعض النصب، ولكن العواقب كانت حميدة. ومن بعد استقبلت الجامعات والمنتديات والأندية طائفة من ذوي الانتماءات المذهبية، فكانت (الحداثة) و(البنيوية) و(التفكيكية) وسائر المذاهب والتيارات والظواهر، وتعالق معها من تعالق، وتصدى لها من تصدى، وحُسِبَ ذلك كله في مصلحة الحركة الأدبية في المملكة. هذا الحراك اللجوج، أفسح المجال لأدباء العرب ونقاده، ليكونوا أطرافاً فاعلة في تلك المعارك، الأمر الذي أغراهم بقراءة الإبداعات الأدبية في المملكة، واستخدام كل المناهج لدراستها، والتواصل مع كل الاتجاهات. وتلك من الظواهر الصحية التي وسَّعت قاعدة التواصل مع آداب الأمة العربية.
والعائدون من البعثات، وبخاصة أولئك الذين أُتيح لهم التواصل مع المذاهب والتيارات الأدبية، تولوا كِبْر التواصل مع أدباء الوطن العربي والتناغم معهم. وجر أقلامهم للتنقيب في ثنايا أدبنا المحلي، وإنجاز دراسات ومحاضرات ومقالات وكتب، تَشَكَّل منها ذلك التواصل المنشود.
وباستعراض كتاب (الأدب السعودي بأقلام الدارسين العرب) وهو عمل (ببليوقرافي) شَرُفْت مع الزميلين الدكتور (محمد الربيع) والدكتور (حمد الدخيل) بإنجازه على عجل، نجده إضاءة في هذا السبيل، ومن قبلنا أنجز الدكتور (منصور الحازمي) وآخرون دراسة من نوع آخر، حول هذا الموضوع، ومن بعد أنجز الدكتور إبراهيم المطوع كتاباً ترجم فيه لمن ألف عن الأدب السعودي من الأدباء العرب، ففي هذه الكتب الثلاثة إشارات لعدد من الدراسات والمقالات والبحوث التي أنجزها الأدباء العرب عن الأدب العربي في المملكة العربية السعودية.
ولقد كنت، ولم أزل حريصا على خدمة هذا الأدب، منذ أن أنجزت رسالتي للماجستير والدكتوراه عنه، وقيامي بتدريسه منذ أربعة عقود والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه المتعلقة به.
أشرت في مستهل الحديث عن اتجاهات الدارسين، واختلاف مواردهم ومصادرهم وإمكاناتهم ومدَّخلاتهم وأهدافهم. والإطلالة المتأملة لمنجزهم تُمكِّن الباحث من حصر تلك الاتجاهات، ومدى جديتها. وهم فيما أعلم وفوق كل ذي علم، لا يخرجون بمجمل دراساتهم عن أربعة اتجاهات، وليسوا بأعيانهم حكراً على تلك الاتجاهات، كما أن من بدت عليه ملامح الاتجاه لا تكون حكراً عليه، إذ ربَّما تكون له إلمامات في الاتجاهات الأخرى. غير أننا ننظر إلى التغليب. لقد تبدى لي (المنهج التاريخي) في دراسة الأدب السعودي لدى الأستاذ الدكتور (محمد صالح الشنطي) والدكتور (بكرى الشيخ أمين)، ودراسات (الشنطي) أكثرُ دقة وشمولية ومنهجية من دراسات الشيخ أمين، علماً أن دراسته الأخيرة أطروحة دكتوراه، غير أن له فيما بعد إلمامات أخرى، ولكنها عبارة عن مقالات متفرقة، تتفاوت قوة وضعفاً. وهي بمجملها إسهامات تشي بالاهتمام والتفاعل، وإن لم تصل إلى المستهدفين، لأنها دراسات تكتب داخل البلاد، وتستهلك داخله، ولا تصل إلى شرائح الأدباء والنقاد في الوطن العربي.
ودراسة (الشنطي) تراوح بين التاريخية، والموضوعية، والوصفية، وهي أميل إلى التاريخية، ولأن (الشنطي) مارس التعليم في مواقع كثيرة من المملكة، فإن ما كتب يدخل في المناهج المدرسية، لقد كان له تواصله الإعلامي مع الأدباء والشعراء والنقاد. وإسهاماته التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، تناولت التجديد والمحافظة، وأشارت إلى بعض المستجدات النقدية. أما المنهج الموضوعي الذي ركز على البعد الدلالي، فيمثله مجموعة من الدارسين والنقاد، وحين أفرق بين الدارسين والنقاد، فإنما أرمي إلى أن الدارس يَعد نفسه وسيطاً شارحاً، فيما يضطلع الناقد بالكشف عن السمات والخصائص ومواطن الضعف والقوة والترجيح، وهي رؤى متواضعة، ولكنها تنم عن مشاركة فاعلة، كنا نتمنى أن تعقبها دراسات أكثرَ قدرة على اكتشاف الأبعاد الدلالية والفنية واللغوية. وممن اضطلعت تناولاتهم بتلك الأبعاد الدكتور (عزت محمود عليَّ الدين) والدكتور (علي المصري). والاستاذ (الشوادني منصور) والدكتور (نبيل راغب) والدكتور (محمود رداوي). ويأتي الأخير أطول نفسا، وأعمق رؤية، وأقدر على استجلاء البعدين الموضوعي والفني، ولكن المنهج الموضوعي أشد وضوحاً عنده من غيره.
إن هذا التقسيم الذي اخترته ورضيته، ليس دقيقاً، ولا شاملاً لكل المناهج، ولكنه تقسيم قصدت منه تقريب مادة الدراسة، ولست أشك أن التناول المفصل سيكشف عن ظواهر أخرى، ولكنها لم تكن من الوضوح والكثرة، بحيث تشكل اتجاها أو منهجا.
وعلى كل الاحتمالات فإن الاتجاهات والمناهج التي توصلنا إليها تعد جماع الاتجاهات والمناهج، ولا عبرة بما يند من دراسات أخرى، وحين ندع المنهجين: (التاريخي) و(الموضوعي) وأبرز ممثليهما، يتبدى لنا منهجان هامان ورئيسان، من حيثُ العمقُ والدقةُ والغوصُ في أعماق الأدب السعودي. فـ (المنهج الفني) الذي تجلت من خلاله دراسات الأستاذ الدكتور (سعد أبو الرضا) والدكتور (نصر محمد عباس) والدكتور (طلعت حاج السيد) والدكتور (بدوي طبانة) تكشف عن الأبعاد الفنية، للأدب السعودي، ومدى تعلق الشباب بالمستجدات الفنية، وبخاصة تحولات القصيدة العربية في بعدها الشكلي، ونحن نعرف أن هذه التحولات بلغت الدرك الأسفل عند ظاهرة (قصيدة النثر) بكل ما هي عليه من انطفاء وغموض، ولكننا وإن ضقنا ذرعا بهذا الانحراف الشكلي، إلا أننا نُشيد بتجارب متجاوزة، تمثلت بالقصيدة التفعيلية عند طائفة من الشعراء الشباب. والدراسات الفنية التي اهتمت بالأبعاد الفنية أشارت إلى التألق والإخفاق، ولكنها مسته مساً خفيفا، ولم تكن واضحةً ولا صريحة، وقد تميل إلى التوصيف والتسجيل، وتتوقى النقد والتقويم.
أما المنهج الأخير والأهم، فالمنهج اللغوي، ويمثله الأستاذ الدكتور (أحمد يوسف علي) والدكتور (عبد الحميد إبراهيم). وخيرهم الأستاذ الدكتور (علي البطل).
ودراساتهم تمد بسبب إلى المناهج الحديثة، ولكنها لا تتقصى، ومجمل الدراسات تفتقر إلى الاتساع والشمول والتصدير، بحيث تكون في متناول يد المستهدفين من مثقفي الوطن العربي وأدبائه.
وإشكالية التواصل مع نقاد الوطن العربي وأدبائه أنها لا تمكن من تجسير الفجوات، ولا تتيح للأدب السعودي ما أتيح لغيره من حضور فاعل. والكتاب الفهرسي الذي شرفت بالاشتراك في إنجازه يؤكد أن هناك كماً لا بأس به من الدراسات، ولكنها كما أشرت حبيسة المستودعات، ولم تصل إلى شرائح الأدباء في الوطن العربي.
ولقد توصف تلك الدراسات من البعض بالتسطح والمجاملة، وعجز الدارسين عن التقصي. وهي صفات قائمة في بعض الدراسات، ولكنها لا تؤثر على مجمل الأعمال، فكل جهدٍ له جوانبه السلبية والإيجابية، ولسنا معنيين بالتقويم الدقيق، ولكننا نود الإشارة والإشادة بهذا الجهد المذكور والمشكور، وإن كان متواضعاً في نظر البعض.
الذي أوده في تلك العجالة، أن نرشد هذا المسار، وأن نصحح ما يعرض له من هنات، وأن نسعى جهدنا على تصدير تلك الدراسات، وأن تستبق الأندية والجامعات والمكتبات العامة تنفيذ ملتقياتٍ لدراسة الأدب السعودي بأقلام النقاد العرب، وأن تكون هذه الدراسات في متناول يد الأديب العربي، ليعرف عن أدبنا قدر ما نعرفه عن الآداب العربية الأخرى. فنحن بإمكاناتنا أهلٌ لأن نعيش ذات الحضور، الذي تعيشه الآداب العربية فوق أرضنا، وفي كافة محافلنا الأدبية. ما أستطيع القطع به أننا نمتلك القدرة والأهلية، وبلادنا بما هيأ الله لها من سخاء ورخاء واستقرار ومأسسة ثقافية وأدبية وتعليمية تمتلك آلية الفعل الثقافي القادر على الحضور والندية وتكافؤ الفرص، وعلى المؤسسات المعنية وضع (الاستراتيجية) ورسم خريطة الطريق ومباشرة الفعل المنسق، لنكون حاضري المشاهد العربية.