رأينا في مواضيع سابقة بعض الأوهام التي يُناقشها كتاب «الغوريلا الخفي» للخبير النفسي «كريس شابري»، وهو كتاب كتبه ليوضح عدة أوهام يقع البشر ضحايا لها بدون شعورهم، ورأينا أولاً وهم الانتباه ثم وهم التذكُّر، واليوم نصل لوهمٍ ثالث وهو ما يُسمى وهم الثقة، وهذه أعتقد أن كلنا مرّ بهذه النوعيات من الناس، بل نحن أنفسنا دائماً من هذه النوعيات! ما هي هذه النوعيات.. وما هو هذا الوهم؟
هذا المصطلح يُطلقه الكاتب على شعور بالثقة لدى الإنسان وهو لا يستحقه؛ ثقة في قدراته، في علمه، في كفاءته، وغير ذلك. لنتأمل مثالاً يبيّن هذه الفكرة: منذ عام 1973م وإلى اليوم تُقام منافسة مفتوحة للشطرنج في أمريكا. كل سنة يجتمع المئات من أمهر لاعبي الشطرنج في العالم طمعاً في المجد وفي جائزة قدرها 250 ألف دولار. من الأشياء الظريفة في هذا الدوري أن اللاعبين يعرفون بالضبط مدى مهارتهم، فلكل لاعب درجة قائمة على حسابات رياضية تُعبّر عن كفاءة اللاعب وهذا شيء لا يكاد يوجد في أي نشاط آخر، فلا يوجد مثلاً مقياس لمعرفة مدى كفاءة المدير أو السائق أو لاعب كرة القدم... إلخ، فإذا خسر اللاعب لعبة انخفض التقدير عدة نقاط، وإذا خسر أمام خصم ضعيف فإن الانخفاض يكون أكثر، وهكذا، وهذا المقياس بالغ الدقة. ذهب الكاتب تلك السنة إلى الفندق الذي أقيمت فيه تلك البطولة، وفي البهو قام بتسليم عدد من المتنافسين استبياناً مكوناً من سؤالين: (1) كم درجتك؟ 2 كم الدرجة التي تستحقها فعلاً؟ وبعد معاينة الإجابات وجدوا أن الإجابات تراوحت بين ثلاث: 4% قالوا إن درجتهم فوق ما يستحقون، 21% قالوا إن درجتهم مناسبة، و75% قالوا إن مستواهم أعلى مما تُظهره درجتهم، رغم أن الدرجة الرسمية هي الدرجة الصحيحة والدقيقة فعلاً. ما سبب هذا؟
وهم الثقة. إنه اعتقادٌ فاسد يجعلنا نعتقد أننا أعلم وأكفأ مما نحن عليه، وتزداد هذه الثقة الزائفة كلما ازددنا جهلاً. في الاستبيان أعلاه وجدوا أن اللاعبين ذوي الدرجات الأقل قد رأوا أنهم يستحقون 150 نقطة إضافية، أما اللاعبون الأعلى درجة والأكثر مهارة فقد رأوا أنهم يستحقون 50 نقطة إضافية. هذه هي المسألة التي أظن الكثير منا رآها بل وعانى منها وهو لا يدري: من لديه القليل من المهارة في -مثلاً- كرة القدم فسيظن نفسه أمهر بكثير مما هو عليه، عكس المحترفين والذين ينظرون لمهاراتهم نظرة أكثر تواضعاً وواقعية. من لديه بعض العلم في الشؤون الاجتماعية مثلاً فالراجح أنه سيكون من أكثر الناس جدلاً وكتابة ومناقشة واعتداداً برأيه، عكس من درسَ المجال لسنين طويلة وتخصص فيه فسيقيِّم خبرته بشكلٍ أكثر واقعية وربما يقول إنه ما زال هناك الكثير مما يجهله. هذه الأمثلة والكثير غيرها تُثبِت ظاهرة بشرية شائعة: الجهل يُورث الثقة أكثر مما يُورثه العلم، وهذه تُلخصها مقولة شهيرة: «كلما ازددت علماً ازددت علماً أنني لا أعلم»! سَتَمرّ على أشباه هذه الأمثلة كثيراً. شخص ليس لديه إلا خبرة إدارية قليلة يُرقّى إلى منصب مدير فيتخذ قرارات بثقة رغم أنها لا تعتمد على خبرة. غلام يتعلم القيادة فيمتلئ ثقة بقدرته وتراه واثقاً مندفعاً لا يبالي أيقود في طريق سريع أو حتى ساحة رالي! وهلم جراً.
إذاً، هذا وهم الثقة. إنه فخٌّ سهل السقوط فيه. هل هناك حل لهذا الوهم؟ نعم، لكنه ليس سريعاً سهلاً: إنه العلم، ثم المزيد من العلم. إذا رأيتَ متعلماً شاباً وهو يعتد برأيه ولا يدع أحداً إلا ناظره ولا مكاناً إلا وكتب فيه فإن أفضل حل له هو أن يزداد علماً، فإذا أدرك أن ما لديه من عِلم ليس بشيء مقارنة مع ما لدى العلماء والخبراء فإن هذا سيضع قليلاً من اغتراره. الغلام الذي لديه القليل من المعرفة بالقيادة، لا حل لخفض اعتداده إلا أن يتعلم أكثر عن القيادة ليدرك المزيد من مخاطرها ومسؤولياتها، وهكذا. مع المزيد من الصعود في العلم والمعرفة فإن هذا هو ما سيخفّف من الاعتداد بالرأي والثقة الزائفة وسيجعل تقييم الذات أكثر واقعية.