بعض النساء ولدت لتبقى، وماتت لتعيش.. رحلت عن دنيا الناس بعد أن حكت للأولاد والأحفاد حكايات رائعة لا يمكن أن يبدع في نسجها حقيقة ماثلة أمام الأعيان إلا هي..ماتت بعد أن أنجزت أفعالاً جميلة ترتسم ملامحها شاخصة عند كل من عرفها..تتراقص في ذاكرته وترفض الرحيل عن عالمه ومفارقة مخيلته..يتمنى أن يكون من عشاق الحرف وأصحاب الأقلام ليبدع في تدوينها رواية حقيقية،، أبطالها.. “نساء عرفهن التاريخ” وهنّ اليوم تحت الثرى، رحمهن الله رحمة واسعة وأسكنهن فسيح جناته.
جزماً كل منا يعرف من هؤلاء النسوة مثنى وثلاث ورباع، وعني فإن في طليعة من أعرف، على رأس القائمة “منيرة درعان الدرعان “أم ناصر”،، امرأة رائعة لا يمكن أن تنمحي من ذاكرتي مهما حاولت، وجزماً لن تزول ملامحها التي ارتسمت في الذهن حتى وإن تقادم الزمن وتصارمت الأعوام وانقضت الليالي والأيام..
لقد استيقظت صبيحة يوم الأربعاء قبل الماضي على رسالة ولدي الحبيب ذات الكلمات التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولكنها عبرت البراري والمحيطات لتنقل إليّ خبر وفاة هذه المرأة الرائعة والنموذج المتميز السيدة الفاضلة “أم ناصر” والدة زوجتي وجدة صغاري.
نعم رحلت هذه المرأة المثالية عن دنيانا بعد أن فعلت ما استطاعت لتوجد لها موقعاً بارزاً في قلوبنا فتبقى حية بذاكرتنا وإن طال الزمن..عاشت بيننا أحلى سنوات العمر.. كانت تعطينا دروساً من تجارب الحياة.. تعرفنا كيف هي الدنيا على الحقيقة.. تشارك في تربية أطفالنا على الخلق الكريم والسلوك الجميل.. أذكرها عند الصباح وحين يحل الظلام..تعود ذكراها من جديد مساء كل أربعاء حيث يجتمع حولها كل من أراد من الأولاد والأحفاد والأقارب والأحباب لتعطي سلوكاً عملياً في التواصل والوفاء.. وجزماً أشد ما ستكون الذاكرة حية معها حين ينزل المطر ويحل الشتاء.. وعندما يحل الربيع وتزدان الأرض سوف أراها.. أسمعها.. أرد عليها اتصالها وهي تجتهد في بعث الإرادات وتحفيز الهمم لضرب أطناب الخيام في سفوح أجا وعلى أعالي الهضاب.
أتذكر لحظة كتابة هذا المقال كيف أودعها عندما أهم بالخروج للعمل كل صباح وهي قابعة على كرسيها الصغير تتجرع الألم ولا تكاد تسيغه وترفض أن تبين.. وعند الرابعة عصراً يعود طيف ذكراها وهي تحاول جهدها أن ترقب الباب، تتحسس فتح الدار، تلتفت بتثاقل لترحب بي ولو بالإشارة البسيطة التي أفهم عمق معانيها وعِظم حروفها..أعرف عنها الكثير من السجايا والصفات، أذكر أنها مثلاً.
• لم تقل منذ أن كانت في ريعان الشباب كما تقول كثير من نسوة هذا الزمن “دلوني على السوق” بل سمعت قول الله عزَّ وجلَّ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فكان منها الالتزام.
• تلتمس الأعذار لغيرها، ولا يظهر منها تضجر أو عتب على من قصر بحقها سواء أكان زوجاً أو ولداً أو أخاً أو صاحبة أو جارة أو قريبا.
• لا تعيب شيئاً، ولا تقصر في حق من تعرف، ولا تتحدث عن أحد بسوء، ولا تصف ما ترى بما لا يحب، أو تمارس عليه النقد والتشفي والتهكم سواء أكان ذلك في شكله أو سلوكه.
• عاشت سنوات عمرها طائعة ربها، مرضية زوجها، حريصة على ولدها وحفيدها، حتى وهي أشد ما تكون معاناة من المرض الذي هد جسدها الطاهر.
• كانت في عالمها القريب رمزاً للعطاء وعنواناً للنظافة، ومثالاً في حفظ اللسان، وأنموذجاً في دماثة الخلق والصبر والتحمل والتفاني والوفاء منذ نعومة أظفارها حتى آخر أيام عمرها.
**أعتذر إليك أيها الجسد الطاهر فقد كنت أتمنى أن أشارك في وداعك الأخير.
**أعتذر إليك أيتها الروح الزكية الطيبة إن كنت قصرت في الدعاء لك وأنا أرى سياط الألم تتنقل داخل الحنايا وتقطع الأفئدة وجعاً وأنيناً.
نعم..إن كرب الزمان وفقد الأحبة خطب جلل وحدث موجع، أمر مهول ووقع مؤلم، هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان في هذه الدار، نار في الفؤاد تستعر، وحرقة في الجنان تضطرم تحرق القلب، وتفت العضد، تجري الدموع، وتورث الأسى، ولكن عزاءنا أننا نعلم علم يقين أن الموت حق، وأن قدر الله نافذ وإرادته ماضية، وأن عمل الإنسان لن ينقطع برحيله من عالمنا الفاني؛ فالصدقة الجارية ستبقى، والولد الصالح سيظل مذكراً وداعياً - بإذن الله - وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)، - رحم الله “أم ناصر” رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته ورزق زوجها وأولادها وأحفادها وذويها الصبر والسلوان -، وصدق الشاعر حين قال:
إني معزك لا إني على ثقة
من الحياة ولكن سنة الديني
فلا المعُزى بباق بعد ميته
ولا المعزي ولو عاشا إلى حيني
ولنا جميعاً قول أبي ذر - رضي الله عنه -: أوصاني خليلي بكلمات هن أحب إليّ من الدنيا وما فيها، فقال: (يا أبا ذر أحكم السفينة فإن البحر عميق، واستكثر الزاد فإن السفر طويل، وخفف الظهر فإن العقبة كؤود).. دمتم بخير وتقبلوا صادق الود والسلام.