من أفخم الشخصيات التي أحترم تجربتها الإنسانية البير كامو رغم موقفه من الجزائر لأنه صادق في أدبه الإنساني بالمجمل العام، صاحب رواية الغريب والطاعون ومسرحية “كاليجولا” المملوءة بالسخرية من استبداد مجانين السلطةومن يتوهمون الخلود،
ومن يسيطرون على مفاصل الحياة اعتقادا منهم أنهم ليسوا من سلالات البشر وأن كل معجزة من معجزات الطبيعة التي أبدعها الخالق هم الأحق بها دون غيرهم لأنهم الأغيار بزعمهم، فالشمس تُشْرق فقط لأجلهم (والقمر يبسط ضياءه على لياليهم الحمراء)، والمطر يهطل سقيا لهم ولولاهم لجفت الآبار وهدمت الصوامع وكسرت البيع، أولئك الراقصون في مسرح الحياة المكشوف وفي الهواء الذي لم يعد طلقاً (حينما تلوث برائحة اللحم البشري التي عمت أرجاء الكون ورماد المخطوطات وبقايا متاحف الإنسان الذي عمر أرض الله ذات يوم).
فن الرقص يتقنه الأطفال ابتداء ويكبر معهم شيئا فشيئا حتى يتحول إلى موروث وربما إلى أيديولوجيا عند بعض الشعوب وإن أحب الإنسان أن يعود إلى الوراء مارس الرقص ولو مع نفسه وعلى تقاسيم صوته في المكان الأسوأ أحيانا، وهذا يؤكد أنه مامن شعب على هذه الأرض إلا وله طقوسه في الرقص تعبيرا عن الفرح أوالترح على السواء، وما من إنسان إلا ولديه ألف شجن وشجن يخرجه من حلبة الرقص ليكمل دورانه الهستيري حول نفسه مع من يرقصون على الهامش حنجلة مع بعضهم في حفلة تنكرية لايعرف أطرافها الشذاذ، ليكتشف بعد تلك الحفلة أنه من الظامئين الذين تشققت شفاههم من العطش ولم يحصلوا إلا على المزيد من الملح، والعراة الذين لم يجدوا مايستروا به عوراتهم إلا بعض قطع تزيد من الإثارة الجنسية وحركاتها المتناسقة على أنغام النشيد الحزين لنايات صيغت من أحزان القصب. الرقص مع الذئاب حكاية لَمْ تَرِدْ في كتاب الحيوان للجاحظ أو حياة الحيوان للدميري ولم يبدع تفاصيلها ابن المقفع في كتاب كليلة ودمنة ليسقطها على واقع محموم خوفا من المشهد السياسي آنذاك وبطش الجبابرة، حكاية لم يكن بطلها الشنفرى الأزدي وأهله (السيد العملس الذئب والأرقط الزهلول النمر وقيل الحية والعرفاء الضبع) حينما قال في لامية العرب:
وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلّس
وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ
هُمُ الأهل لا مُستَودَعُ السِرَّ ذائِعٌ
لَدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ
لكن حكاية الرقص مع الذئاب تفاصيل فيلم ممتع بأدوات أمريكية ابتداء من السيناريو ومرورا بالبطل الأمريكي الرجل الأبيض وعدد من الأبطال من الهنود الحمر السكان الأصليين وانتهاء بذئب ليس كالذئاب ذات الوجوه الشهباء، كل التفاصيل تجبرك كمشاهد على التفاعل مع هذا النوع من الملاحم السينمائية التي تروق لي كثيرا لأنها تعزز جوانب الإنسانية وإن كانت تقوم على تسويغ القوة الناعمة (الثقافة) بشكل مثير لتثبت أن القوة الخشنة -العسكرتاريا- لن تفيد في غرس التثقيف بالدبابة أو الصاروخ أو الاستعمار، (بخلاف التثقيف الناعم الممنهج الذي تستنشقه مسامات الرئة في اليقظة والنوم على السواء دون شعور أن الإنسان مستهدف) وتتشربه مسامات الذاكرة بلا ضجيج. لم تخون السلطات البطل والمخرج والمنتج والسيناريو ولم تتهمهم في وطنيتهم لأنهم أنصفوا جزءا من تركيبة الشعب الأمريكي، ولم تمنع دوائر الأمن القومي هذا الفيلم بحجة الهاجس الأمني المبالغ فيه دليلا على الثقة بالمشروع وسمو الهدف على الأقل في نظرهم لأن التثقيف الناعم مهمة شعب كامل لايخشى على نفسه ولايقفل الباب على أفراده حتى لاتبهرهم الأضواء مادام مشروعه حقيقيا وعرضه موضوعيا وهذ النمط من التثقيف يتسلل بهدوء ورشاقة إلى الوجدان على المدى البعيد عن طريق رواية أدبية أو مسرحية كوميدية أو فيلم سينمائي وعلى يد أفراد ربما كانوا أقل من عاديين، يمررون مايريدون في الشارع والمحطة والمقهى والسوق والمناسبة ويقنعون الآخر باحترافية تعجز عنها كل فصول الدراسة وأهداف التربية والمقررات الأكاديمية حتى لايتحول إنسانها إلى كائن إسفنجي قابل لامتصاص أي شيء يهدد مفاصل الحياة الوطنية بكل أطيافها المختلفة..
إن الدهشة في حكاية الرقص مع الذئاب تكمن في بطل أمريكي مكلف من قيادته بمهمة الاستطلاع على الهنود الحمر واكتشافهم ومراقبتهم، فخالطهم ووقف على حقيقة الإنسانية في تفاصيل وجوههم الملونة بكل مايستدعيه الموروث الهندي، ولما وجدوه ذات مرة يلعب ويرقص مع ذئب غريب سموا هذا الرجل الأبيض الراقص مع الذئاب، والدرس الأكبر من هذا أنه اكتشف أن التوحش الحقيقي هو حرمان إنسان ما من العيش على الطريقة التي يحبها وإكراهه على حياة لاتروق له..
إن الشعوب المتمدنة يتبادل أفرادها أكبر قدر من التجارب فيما بينهم والمعارف التي لديهم من دون أن يدفعوا خصوصياتهم ثمناً لهذا الاختلاط، فأحياناً تفشل الأسلحة في فرض ما تريد من ثقافة وقد يؤدي الاستفزاز المعلن إلى تقويض المشروع الوطني على رؤوس أهله الذين أقصوا وبالغوا في الإقصاء، لكن بالمقابل قد تنجح (القوة الناعمة وهي عزلاء إلا من إنسانيتها)، فلا يشعر من يتلقاها أنها تغزوه في عُقر وطنه، ولايحس (أنها ترغمه وتختطفه) وتستهدفه لسرقته من موروثه وتاريخه بل تُحاوره وتستدعي لديه احتياطياته وتنجح في تحويلة أداة فعالة لتسويغ المشروع الإنساني برمته ولكن الواقع يفرض سؤالا كبيرا: لماذا فشل مشروعنا في احتواء من هم بيننا ممن اختلفوا معنا عرقيا وطائفيا ووجهات نظر؟ والإجابة على هذا السؤال المشروع في المقال القادم مركزا على طريقة الإسلام في معاملته لأهل الذمة والطوائف والمسلمين الحدثاء وغيرهم من أطياف المجتمع الإنساني آنذاك وكيف فشل العرب فدفع أحفادهم فواتير باهضة حينما عاملوا بعض الأعاجم على أنهم مواطنون من الدرجة العاشرة في السلم الاجتماعي، فأجبروا علماء الأمة ومفكريها وشعرائها من إخواننا الأعاجم على أن يكونوا موالي لقريش وبني أسد وهوازن وغيرها من قبائل العرب ليضمنوا ضروراتهم الخمس، وهذا ظاهرة في كتب التراجم والمحدثين فكثيرا ما تنص كتب التراجم أن فلانا مولى بني أسد وعلانا مولى بني غنم والإمام كان مولى بني زهرة.
والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com