يبدو أن كثيراً من الإدارات الحكومية وغير الحكومية في عدد كبير من دول العالم سيخصص قسماً يسمى (قسم النفي)؛ وذلك لنفي ما يطرح من وسائل الإعلام المتنوعة من افتراءات وأكاذيب، زادت مع زيادة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي أصبح من الصعب السيطرة على ما يبث خلالها من أخبار وأقوال، منها الصحيح ومنها غير الصحيح، وفيها الغث والسمين.
لقد أصبح المرء في حيرة من أمره لما يراه من أقوال متضاربة، وآراء متباينة، وأخبار متناقضة، ومن المؤسف حقاً أن أفراداً من شعوب الأرض لا يتورعون عن الابتداع لغاية مقصودة، أو للهو ممجوج، أو للاستلذاذ بانتقام، أو الإساءة إلى الأنام. ومهما يكن الأمر فإن الضوابط أضحت واضحة في دول متقدمة، واعتاد الناس على رفع القضايا ذات العلاقة بالإساءة للمؤسسات والأفراد، ويبدو أن مثل هذه الثقافة في التقاضي أصبحت ملحة لدى بعض الشعوب والأفراد الذين اعتادوا على التجاوز والتسامح وترك الأمور على عواهنها.
في وسائل التواصل الاجتماعي تصعب السيطرة، وتتعذر المتابعة، ولهذا كان التجاوز هو الملاذ، ولاسيما أنه لا يصح إلاّ الصحيح، والكيّس من يميز بين الجميل والقبيح، حتى وإن كثر القبيح وخلط بشيء من الحق لكي يختلط الحابل بالنابل، فيحتار في القول العاقل، ومع هذا فإن الكذب لا يغير من الحق، وبعض من ذوي المآرب يتلقفون ما يتم تسطيره عبر قنوات التواصل، فينقلون في صفحاتهم ذلك الكذب مستندين فيما قالوا على كذب، فيكون الأمر كذباً في كذب، فتضطر المؤسسة الحكومية أو الخاصة إلى النفي، وربما من خلال قسم النفي، وهكذا أصبح قسم النفي مُلحًّا.
في القنوات القضائية المنتشرة في عنان السماء، متعددة المشارب، ومتنوعة المآرب، وتنقل ما تشاء من مواقع معينة لتحقيق غاية، فيتناقلها المغرضون، وهكذا ستستمر سلسلة قول في أصله مختلف، فكان لا بد من رد؛ ولهذا كان وجود قسم النفي مهماً.
يبدو أن الكذب كان سائداً منذ زمن بعيد، ولاسيما بين المحبين ومواعيدهم، ولعل عمر بن ربيعة ومحبوبته هند مثل لذلك، وهو القائل فيها:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
زعموها سألت جاراتها
وتعرت ذات يوم تبترد
وهي طويلة إلى أن قال:
حدثوني أنها لي نفثت
عقداً يا حبذا تلك العقد
كلما قلت متى موعدنا
ضحكت هند وقالت بعد غد
ألم تكن هند كاذبة؟
أما ابن زيدون فقد قال في حبيبته ولادة ناصحاً منافسه الوزير أبا عامر ابن عبدوس:
وغرك من عهد ولادة
سراب تراءى، وبرق ومض
تظن الوفاء بها والظنون
فيها تقول على من فرض
هي الماء تأبى على قابض
ويمنع زبدته من مخض
يا له من وضع بديع صاغه شعراً ابن زيدون؛ فهي كالماء لا يمكن للقابض أن يقبضه، ولا يمكنه أن يتمخض عن زبدة.
وكما هم الشعراء مع عشيقاتهم، في ذلك الزمان، اتسع النطاق في هذا العصر؛ فأضحى الأمر يعم الناس في أحوالهم وأقوالهم، وإداراتهم ودسائسهم الكاذبة، فكان من المناسب إنشاء قسم النفي؛ ليضاف لأقسام مثل المستندات والموظفين وغيرها من الأقسام. والله المستعان.