إن من البرامج التلفزيونية ما يأسرك ويجذبك ويجعلك رغم ما عندك من مهام أن تبقى أمام الشاشة من أول دقيقة لعرضه حتى الدقيقة الأخيرة، رغم أن الكثيرين عزفوا عن مشاهدة البرامج الحوارية التي تبتعد عن الجدل والنقاش الحاد والاتجاهات المتعاكسة التي حققت لها نسبة مشاهدة مميزة في الفترة الأخيرة، بالرغم من هذا فإن البرامج الثقافية التي تقدم بقالب مشوق ويحضر فيها ضيوف مميزون وتعالج قضايا آنية ومحورية تلقى أصداء جميلة ومتابعة لا بأس بها.
الإعلام صناعة، وتجارة رابحة، وتجارة ليست بالفاسدة إن استخدم بوعي فهو يرقى بالذائقة ويصنع الوعي ويشكل الفكر، ومن فترة طويلة لم أجلس أمام برنامج جذبني إليه بمحتواه وطريقة عرضه كما برنامج “ كتب التاريخ” الذي يعرض على قناة MTV اللبنانية، كان الحوار مع الكاتبة الفرنسية من أصل لبناني فينيس خوري، شاعرة تعدت الثمانين ولها عشرات المؤلفات والروايات التي كتبت بطريقة وجدانية أدبية رائعة، وقد احتلت فلسفة الموت مساحة واسعة فيما تكتب، وقد حاز أكثر من خمسة عشر عملا من أعمالها على جوائز مهمة، واستطاعت خوري أن تفرض نفسها وسط عالم ذكوري دون صراع ونزاع.
زاد البرنامج جمالا إطلالة مقدمة البرنامج من مناطق عديدة في باريس حيث تعيش الكاتبة ضيفة البرنامج، وحيث تعودت تحتسي قهوتها، وتتجول في شوارع المدينة، تهمس للنهر وتحاكي الأرواح التي سكنت المدينة العريقة، تحدثت الكاتبة بصراحة عن تفاصيل قد تكون محرجة أو مؤلمة لبعضنا لكنها كانت جزءا من حياتها ودافعا لإبداعها، الأب القاسي.. الأخ الذي عاد من باريس محموما بآفة المخدرات التي لم يسلم منها فكتبت فينيس القصيدة التي لم يكتبها ورسمت ذاكرة أخرى لباريس ذاكرة متوهجة بالنور والإبداع والكتابة، تحدثت في البرنامج عن الهجرة من لبنان إلى باريس، والأبناء الذين ما زالت تعاملهم كما الأطفال تتصل بهم ليلا حيث كانوا لتتأكد من أنهم عادوا إلى منازلهم، تحدثت عن زواجها الأول الذي استمر لسبعة أعوام وقررت أن تنهيه لأنها لم تعثر فيه عن روحها وطأتها، ثم وصفت حبها العميق لزوجها الثاني واستمرار هذا الحب حتى بعد رحيله لأنها تؤمن أن الناس لا يموتون، بالذات أولئك الذين يخلفون وراءهم عملا ما أو يزرعون شجرة تبقى تذكر بهم.
تحدثت عن الدين والعرق والاعتقادات والأساطير وعن تجربة الكتابة حيث تترجم الأفكار التي تراودها طول الليل في قالب أدبي يريحها من حملها، وتقول عن الوحدة بأنها رائعة لأنها هي التي تمكنها من الكتابة.
مثل هذا البرنامج الشيق يعيد للبرامج الحوارية هيبتها وحضورها وشعبية كبيرة ليست من النخب المثقفة بل من فئة المشاهدين العاديين الذين تجذبهم الصورة والكلمة والمحتوى الجيد.
من آخر البحر
ليس في اختلاف الليل والنهار ما يفرقنا
فنحن على خارطة القلب
بؤرة واحدة
mysoonabubaker@yahoo.com