الإهداء:
إلى الشاعر الأديب الوزير الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة
فاتحة:
... توعك الوزير/ الشاعر ذات شهر في مطلع هذا العام الهجري، ودخل المستشفى لإجراء عملية القلب المفتوح وخرج سليماً معافى، ليقضي فترة النقاهة في داره وبين أهله وذويه وزيارات محبيه. كان ذلك في مطلع شهر صفر 1433هـ. وفي أواخر شهر ربيع الأول 1433هـ عاد لمباشرة أعماله الوزارية. وفي (الرياض) يخلو لنفسه ذات مساء أو نهار ليكتب نصَّه الشعري الذي نتداخل معه الآن الموسوم بـ «سبعون».
تاريخ النَّص منشوراً، هو يوم الأربعاء 14 ربيع الآخر 1433هـ في صحيفة الجزيرة ص 43. لكن تاريخ الميلاد والإنجاز لهذا النص فهو ما ورد مكتوباً في ذيل القصيدة 9-4-1433هـ الرياض، الموافق يوم الجمعة من شهر ربيع الآخر، وهذا يعني أنه كتب النَّص بعد عودته للوزارة بـ 14 يوماً (أربعة عشر يوماً)!!
(*) عضو الجمعية العمومية/ نادي جدة الأدبي. شاعر وناقد ومؤرخ.
وإذا تذكرنا تاريخ ميلاد الوزير الشاعر - صاحب النَّص -وهو العام 1361هـ، أدركنا سرَّ وقوفه عند هذا العمر «السبعيني» لينشدنا فيه وعنه شعراً يفيض بالروحانية والصفاء والأوبة والاستغفار مستحضراً فترة المرض التي ألمت به وقلبه الذي تعرض لمشرط الطبيب، ويوم الجمعة المباركة التي شهدت ميلاد هذا النَّص الشعري!!
***
(2) وأنا أتعالق شعرياً وثقافياً ونقدياً مع هذا النَّص الشعري تذكرت شاعرين سعوديين وقفا عند هذا العمر السبعيني، وكتبا فيه نصاً شعرياً وهما: الشاعر عبدالعزيز الرفاعي الذي قال:
«سبعون يا صحبي وجل مصابُ
ولدى الشدائد تعرف الأصحابُ
سبعون في درب الطفولة شوكة
أما الشباب فليس ثم شبابُ
الجد أغراني برغم جفافه
فظمئت حتى لو أتيح شرابُ
إلى أن يقول:
حنت إلى عبق التراب جوانحي
لا غرو يشتاق التراب ترابُ»
والشاعر الآخر هو غازي القصيبي الذي يقول:
«ماذا تريد من السبعين يا رجل
لا أنت أنت ولا أيامك الأولُ
جاءتك حاسرة الأنياب كالحة
كأنما هي وجهٌ سلّه الأجلُ
أواه! سيدتي السبعون معذرة
إذا التقينا ولم يعصف بي الجدلُ
إلى أن يقول:
تبارك الله قد شاءت إرادته
لي البقاء.. فهذا العبد ممتثلُ
وفي كلا النَّصين يتضح موقف الشاعر من هذه الفترة العمرية وما يؤمله فيها من أجل ما بعدها، فهي مرحلة الأوبة والاسترجاع والاستغفار والتوبة والندم والشعور بالقرب من الآخرة والقبر والفراق الدنيوي. وهذا يقربنا من التناول النقدي للنَّص الشعري الماثل أمامنا.
***
(3) يقوم النَّص على أربعة محاور بنيوية، استنتجنا معالمها بعد تفكيك النَّص وتحليله إلى أيقونات شعرية كل منها تحمل بعض الأبيات وهي كما يلي:
المحور الأول/ بنية العمر السبعيني وما فيه: ويمثلها من النَّص:
- العنوان «سبعون»:
- والأبيات التالية:
1) - إني لقيتك يا «سبعون» مبتسماً
راض بما قد مضى راض بما قسما
5)- أواه كم حملت «سبعون» من زلل
كم يرحم الله من ذنب وإن عظما
16) «سبعون» مرت بما فيها كثانية
أوراقها سقطت والغصن ما سلما
17) لكنها في سجل الله قد كتبت
أحصى دقائقها ما جد أو قدما
***
المحور الثاني: بنية الاعتراف بالآثام والعمل غير الصالح: ويمثلها الأبيات التالية:
7)- لم يبق في القلب لا ليلى ولا رغد
أما روان فما راعت لنا ذمما
8)- إني سهرت الليالي في الهوى أثماً
أصدق الزيف وعداً كان أو قسما
9)- أكلما قلت أنسى صرت أذكره
وصاح شوق قديم فزَّ واضطرما
10)- كأنه في خلايا القلب مسكنه
أهواه إن عدلا، أهواه إن ظلما
11)- وكلما طاب جرح نزَّ إخوته
وثار جرح جديد غار ما التئما
***
المحور الثالث: بنية الدنيا الفانية الخادعة: ويمثلها الأبيات التالية:
2)- لم أشك من نصب قد مر بي حقباً
وما بكيت على عمر قد انصرما
12)- قد كنت، كم كنت مغروراً بمعرفتي
حتى حسبت بأني أبلغ القمما
13)- ما كنت أعلم أن الدرب خادعة
حتى إذا أومأت سرنا لها قدما
14)- إن الذي خلته في القفر ملتجأً
كان السراب، وكان الجدب والعدما
15) - يا حادي الوهم كم زلت بنا قدم
وكنت أحسب أنِّي أبلغ السُّدُمّا
***
المحور الرابع/ بنية اللجوء إلى الله والدعاء ويمثلها من النَّص الأبيات التالية:
3)- لم يبق لي غير عفو الله أطلبه
ورحمة منه أرجوها ومعتصما
4)- وكل ما حل بي كرب على أفقي
أدعوه يذهب عنِّي الكرب والسقما
6)- رباه إني على الأبواب ملتجئ
ما لي سواك. تقبل عبدك الهرما
18)- إني أتيتك يا رباه من ظلم
أرجو بنورك أن تجلي لي الظلما
19)- إني اعترفت فهب لي منك مغفرة
أنت الحليم على من ضل أو أثما
20)- أرجو من الله يمحو كل معصية
ويقبل الله عبداً تاب أو ندما
***
(4) ومن خلال هذا التفكيك والتحليل البنيوي نستطيع أن نعيد صياغة النص من خلال ثلاثة فضاءات نقدية تتعالق جميعها لتخرج لنا مكنوناتها اللغوية، والصور الشعرية، وآفاقها الأسلوبية.
فأما الفضاء النَّصِّي الأول: فنجد فيه الذات الشاعرة وإنسانيتها البشرية المتوغلة في الدنيوية (الآثام، والهوى، والأحلام الخادعة، والوهم، والزيف، والاغترار بطول العمر، والأمل، والاعتراف بذلك كله). وكل هذه الدنيويات تتمثل في الأبيات الواردة في البنى (الأول والثاني والثالث) وتتوقف عند العمر (السبعيني) الذي يشكله لنا الفضاء النَّصِّي الثاني: وهو الفضاء الرباني، السماوي حيث (التوبة، والأوبة، والاستغفار والندم، وطلب الرحمة، واللجوء إلى الله، والخوف من المستقبل (ما بعد السبعين) وكل ذلك يتمثل في الأبيات الواردة في البنية الرابعة.
أما الفضاء النَّصِّي الثالث الذي نتبناه في هذه القراءة النقدية، فهو الجسر الواصل بين فضاء الذات البشري/ الدنيوي والفضاء الرباني/ السماوي، حيث نجد العلاقة بين الآدمية/ البشرية وضعفها وحاجتها إلى الربانية، والصعود من الدونية / والدنيوية إلى الربانية السماوية حيث الصفح والتوبة والمغفرة والرحمة، وهي بذلك تحقق العبودية الخالصة في مقابل الوحدانية الإلهية.
***
(5) في هذه الفضاءات الثلاثة تتجسد الروح الشعرية عبر هذا النَّص الذي يصنفه النقاد ضمن النصوص الشعرية التأملية أو الوداعية، وأنا أسميها اعترافات الشيخوخة لأني أجد فيها الكثير من المفردات التي تنحو إلى الاعترافات وطلب المغفرة، من مثل: عفو الله، الرحمة، الهرم، الإثم، الهوى، زلة القدم، المعصية، التوبة، الندم، المغفرة، الضلال، الدعاء بالربوبية والألوهية. كما أجد فيها صورة عرفانية/ تأملية تظهر علاقة الشاعر بالرب سبحانه وتعالى، وهي علاقة تفاعلية تواصلية فيها الكثير من العبودية والإنسانية، والانكسار البشري والتذلل والخضوع والتوبة والندم، رغبة فيما عند الله سبحانه من مغفرة وعفو وحلم ورحمة، واعترافاً بما اقترفته نفسه الأمّارة بالسوء من هوى وآثام ومعاصي وضلال وزلة قدم.. وهنا تتجلى الذات الشاعرة التي تتعامل (توحيدياً) مع ثنائية الرب/ الله في آفاقها الربوبية والألوهية. فأما الربوبية فقد اختصها الشاعر بثلاثة أبيات يدعو فيها الشاعر بـ (الرب) وهي:
8)- رباه إني على الأبواب ملتجئ
ما لي سواك، تقبل عبدك الهرما
18)- إني أتيتك يا رباه من ظلم
أرجو بنورك أن تجلي لي الظلما
19)- إني اعترفت فهب لي منك مغفرة
أنت الحليم على من أضل أو أثما
وأما الألوهية، فقد اختصها الشاعر بخمسة أبيات يدعو فيها بـ (الله) وهي:
3)- لم يبق لي غير عفو الله أطلبه
ورحمةً منه أرجوها ومعتصما
4)- وكل ما حل بي كرب على أفقي
أدعوه يذهب عني الكرب والسقما
5)- أواه كم حملت سبعون من زلل
كم يرحم الله من ذنب وإن عظما
17)- لكنها في سجل الله قد كتبت
أحصى دقائقها ما جد أو قدما
ومن هنا يستنتج القارئ الواعي أن الذات الشاعرة في تعالقها وجدليتها مع السبعين العمرية إنما تأتي في سياق الاعتراف بالخطايا والآثام وطلب الرحمة والمغفرة والتوبة، وهذه ميزة ترفع مستوى النَّص إلى الكمال الروحاني، والتأمل العرفاني، والتوق الرباني والوعظ الإيماني للذات الشعرية!!
***
(6) وفي هذه السياقات، نحاول استكناه الجماليات الأسلوبية والصور الشعرية والمكونات اللغوية التي تشكل أبعاداً رؤيوية يقوم عليها ويتعامل معها النص السبعيني، حيث يفاجأ القارئ أول ما يفاجأ بالشكل الإخراجي للصفحة التي نشر عليها النَّص بصحيفة الجزيرة. فنرى العنوان (سبعون) وهو العتبة الأهم في النص فقد جاءت مفردة «سبعون» ثلاث مرات بعد العنوان وكلها دون (ال) التعريف أي جاءت تنكيراً وليس تعريفاً، ولهذا دلالة نأتي عليها فيما بعد، وجاءت باللون الأحمر، ولهذا دلالة أيضاً، ويجاورها صورة الشاعر مكللاً ببياض الغترة والثوب الذي يحمل في جيبه الأعلى قلمان مذهبان بذؤابة سوداوية واللحية المشذبة البيضاء وفوقها خط الشارب المبيض أيضاً، وفوقهما عينان تنظران إلى الأمام/ البعيد وفيها نظرة الأمل الواضحة خلف النظارة البيضاء، وحركة اليدين والكفين اللتان تشيران إلى النهاية أو الوقوف، ويحيط بهذا كله المنظر البانورامي لساعة الغروب حيث تظهر الشمس تحيط بها هالة الشفق ولون الصفرة المتداخلة مع ألوان الغروب.. وكل هذا له تشظيات دلالية مع النَّص السبعيني يستطيع القارئ اكتشافها من خلال أبيات القصيدة وتناميها من الاعتراف الدنيوي وحتى الرجاء الأخروي!! الذين تحركهما لفظة «السبعون» والتي جاءت منكرة ثلاث مرات بعد العنوان كما قلت آنفاً وهي:
1) - إني لقيتك يا «سبعون» مبتسماً
راض بما قد مضى راض بما قسما
5)- أواه كم حملت «سبعون» من زلل
كم يرحم الله من ذنب وإن عظما
16)- «سبعون» مرت بما فيها كثانية
أوراقها سقطت والغصن ما سلما
وأعتقد أن دلالتها اللغوية تنطلق من التنكير، فالذات الإنسانية الشاعرة لا تريد أن تعترف بهذه الحقيقة التي وصلت إليها فـ (السبعون) مرحلة عمرية مخيفة، مرحلة انتقالية تقرب من الآخرة ووداع الدنيا!! والشاعر هنا لا يريد التعريف بها فلهج بها لسانه تنكيراً وإنكاراً!!
ومن تلك الجماليات التي نحن بصددها تبدو الصورة الشعرية التي يصوغها الشاعر بأسلوبية مرتفعة حد اللمس والمشاهدة من مثل الأبيات التصويرية التالية:
1)- إني لقيتك يا «سبعون» مبتسماً
راض بما قد مضى راض بما قسما
وهنا نلاحظ الابتسامة المعبرة عن الرضا رغم هذا العمر السبعيني.
2)- إني سهرت الليالي في الهوى أثماً
أصدق الزيف وعداً كان أو قسما
وهنا نلاحظ الآثام التي يسهر الليالي من أجلها والوعد أو القسم المزيف الذي يصدقه الشاعر.
3)- وكلما طاب جرح نزَّ إخوته
وثار جرح جديد غار ما التئما
وهنا نلاحظ حركية الجرح بين شفاء ومرض، بين غائرٍ وجديد، بين ملتئمٍ ومصاب!!
4)- إن الذي خلته في القفر ملتجأً
كان السراب، وكان الجدب والعدما
وهنا نلاحظ صور القفر/ الصحراء/ التيه/ السراب/ الجدب/ العدم وكلها صور تلمس وتشاهد مما يدل على صدقية الشاعر والمشاعر!!
***
(7) وفي هذا السياق يأتي التنوع الفعلي في القصيدة ما بين فعل مضارع، وفعل ماض وكلها تتعالق مع الأنا والذاتية، مقابل الأنت والغيرية في مفارقة نصوصية إبداعية لتمثل جمالية أسلوبية تتألق القصيدة من خلالها وتتشكل دلالاتها وفق مضمونها ومستوياتها.
فمنذ البيت الأول نجد (الأنا) و(الذات) ونجد الأفعال المضارعة والماضية الدالة على الذاتية حاضرة بشكل كبير تصل - إحصائياً - إلى ما يقرب من (70 مفردة) من مثل: إني لقيتك، قد مض ى، أشك، مر بي، بكيت، انصرما، لم يبق لي، أطلبه، أرجوها، إني أتيتك، إني اعترفت، خلته، زلت، أحسب.... إلخ وهذا يدل على أن أفعال الشاعر خلال السبعين عاماً، كانت سبباً ضاغطاً على النفس/ الذات الشاعرة مما جعلها موقنة بأن ذلك كله مسجل ومرصود:
لكنها في سجل الله قد كتبت
أحصى دقائقها ما جد أو قدما
أما الأنت والهو/ الآخر والغيري، فتتجلى مفرداتها حوالي (20 مرة) من مثل: الذنب، المعاصي، الله، الآخرة، العفو، الإثم، الهوى، الزيف، الجرح، الغرور، الخضوع، السراب، القفر، الجدب... إلخ وهذا يدل على ما أحدثته تلك الآثام من خوف ورغبة ورهبة واعتراف بالخطأ والتوبة والندم والإنابة التي عمقتها (السبعون) من عمر الشاعر:
إني اعترفت فهب لي منك مغفرة
أنت الحليم على من ضل أو أثما
***
خاتمة:
ومع كل تلك الجماليات الشعرية، التي وقفنا عليها في قراءتنا التفكيكية والتشريحية والتأويلية للنَّص الماثل بين أيدينا يبدو هناك بيتان خارجان (في ظاهرهما) عن بنية النَّص وهما البيت (7):
لم يبق في القلب لا ليلى ولا رغد
أما روان فما راعت لنا ذمما
والبيت رقم (21):
ثم الصلاة على الهادي وعُتْرته
والآل والصحب من أهدوا لنا القيما
ولذلك، فأنا أزعم أن هذا البيت السابع يتعالق (بنيوياً) مع ما قبله من أبيات وخاصة المقطع ذي الأبيات من 5-7 والتي يعترف فيها الشاعر بأن (سبعونه) قد حملت الكثير من الزلل والذنوب، ويلتجئ إلى الله راجياً العفو والمغفرة والقبول وكأني به يشير إلى الدنيا وهي مؤنثة وما فيها من زلل وخطايا فيختار الأنثى دالاً ورمزاً على تلك الدنيا الخادعة!!
وأما البيت (21) الذي يختم به القصيدة وهو بيت الصلاة على الهادي وعترته والآل والصحب.. فالقارئ يجد فيه إسقاطاً قصدياً من الشاعر لم يقدم له في أول النص أو ثناياه أي حمد لله أو افتتاح بشيء من ذلك لأن الصلاة والسلام على النبي تستلزم بالضرورة الحمد لله الرب جل في علاه. وهذا ما لم يكن في النَّص. ولذلك فأنا أعتقد أن القصيدة انتهت في البيت العشرين:
أرجو من الله يمحو كل معصية
ويقبل الله عبداً تاب أو ندما
ولكن الشاعر أردف هذا البيت بالبيت الأخير مسبوقاً بكلمة «ثم» الدالة على المغايرة عن السابق والبدء بشيء جديد وهذا ما لا يستقيم مع بنية النص وعليه أقترح «شعرياًَ» أن يبدأ النَّص بحمد الله ثم يدخل في لقيا السبعين بابتسامة الرضا.. أو يختم النَّص بعد البيت العشرين ببيتين أولهما حمداً لله وثناءً وشكراً وثانيهما بيت الصلاة على الهادي وعِترته... (يكسر العين لا رفعه كما جاء في النَّص مشكولاً) وبذلك ينسجم النَّص بدءاً وختاماً.
وعلى أية حال.. فقد عشنا مع نص (سبعون) للشاعر الدكتور عبدالعزيز خوجة أياماً وليالي بآمنين في رحابه، متلذذين بخطابه، قارئين لأخطائه وصوابه، منطلقين في سماواته وترابه، محتفين بسؤاله وجوابه فكان نعم الرفيق والصديق شعراً وشاعرية، بنية ونسقاً، فكراً وروحانية.
والحمد لله رب العالمين.
- جدة