خلق الله الخلق مختلفين، فالشعوب تتمايز عن بعضها بأمور عديدة كالشكل واللغة والدين والعادات والتقاليد والتعامل مع معطيات الحياة وتصور العالم بشكل عام. إن لكل شعب خصائصه اللغوية والثقافية والاجتماعية التي تميزه عن الشعوب الأخرى. وقد يندهش بعض الناس عندما يكتشف أن بعض الأمور التي كان يعتقد أنها مشتركة عند كل الشعوب، هي في الواقع ليست كذلك، فعلى سبيل المثال يتفق السواد الأعظم من الشعوب أن تحريك الرأس إلى الأعلى والأسفل يعني الموافقة على أمر ما، أما تحريكه إلى اليمين واليسار فهذا يعني الرفض. ولكن، عزيزي القارئ، إذا قُدِّر لك وزرت بلغاريا لا بد أن تعكس ما ذُكر سابقاً حول حركة الرأس (سيسبب لك هذا الأمر في البداية صدمة رأسية على غرار الصدمات الثقافية، أي أنك ستشعر ببعض الآلام والارتجاجات في الرأس إلى أن تتأقلم على الوضع الجديد!)، فإذا أراد البلغار أن يعبِّروا عن رفضهم لأمر ما فإنهم يحركون رؤوسهم إلى الأعلى والأسفل، أما في حال قبولهم فإن الرؤوس تتهادى يمنة ويسرة.
من الأمور الهامة، وإن لم يكن أهمها، التي تساعدنا في فهم الشعوب الأخرى هي الاطلاع على السمات الرئيسة للتركيبة الشخصية الخاصة بهذه الشعوب، بعبارة أخرى معرفة كيف يفكر هذا الشعب، وهو ما سنتحدث عنه في هذا المقال. أود في البدء أن أشير إلى أمرين هامين، أولهما: أنني لا أهدف من هذه المقالة لا مدح الشعب الروسي ولا ذمهم، ولكن أحاول أن أقدم تحليلاً موضوعياً وحيادياً للشخصية الروسية. الأمر الثاني: يطلق بعض الناس أحياناً أحكاماً تجاه شعب من الشعوب ويصفه بأوصاف مختلفة قد تكون سلبية أو إيجابية، ولكن وفي حالات كثيرة نجد أن من يطلق هذه الأحكام والأوصاف يستند إلى موقف أو موقفين أو تجربة قصيرة الأمد مع بعض الأشخاص المنتمين لذاك الشعب. إن تحديد سمات وصفات لشعب من الشعوب هو أمر بالغ الأهمية والخطورة، لأننا إذا أطلقنا وصفاً غير دقيق لشعب ما وكان هذا الوصف سلبياً، فإن هذا يؤدي إلى جرح مشاعر هذا الشعب، كما وأن الحكم أو الوصف الإيجابي غير الدقيق يعطي تصوراً مخالفاً لما هم عليه في الواقع. ولذلك، وكي يكون الوصف أقرب إلى الدقة، لا بد أن تتوفر في مَن يريد أن يطلق هذا الحكم شرطان هامان- أولاً: أن يقيم في المجتمع الذي يريد أن يتكلم عنه، وكلما طالت فترة الإقامة كان الوصف أقرب إلى الدقة. ثانياً: مجرد الإقامة لا يكفي فقد يكون وجوده سلبياً وغير فعَّال، ولهذا لا بد أن يسعى إلى أن يحاور ويحتك بأكبر عدد ممكن من طبقات وفئات المجتمع.
سأتحدث عن سمتين رئيستين في الشخصية الروسية، وهو ما توصلت إليه بعد خمس سنوات من الإقامة في روسيا، وأزعم أن هذه الإقامة كانت نشطة. لا بد أن أشير هنا إلى أمر هام، وهو أنني أتحدث عن القومية الروسية بالتحديد وليس كل سكان روسيا، لأن في الاتحاد السوفيتي سابقاً وروسيا الاتحادية حالياً هناك عدد كبير من القوميات، ولكن القومية الروسية هي الأكبر عدداً (حسب التعداد السكاني لعام 2010، عدد سكان روسيا هو 143 مليون منهم 111 مليون ينتمون إلى القومية الروسية)، واللغة الروسية هي اللغة الرسمية للدولة، كما وأن عدداً كبيراً من القيادات في الدولة ينتمون إلى القومية الروسية. ولذلك، فالحديث هنا عن ممثلي القومية الروسية، وكذلك عن من تشرب خصائص هذه القومية من القوميات الأخرى بحكم أنها -أي القومية الروسية- هي الأكبر عدداً، وبحكم الانصهار الثقافي والتزاوج بين القوميات المختلفة.
السمة الأولى.. التوجس والريبة: إن الأحوال السياسية والاقتصادية التي مر بها الروس خلال فترات زمنية مختلفة ألقت بظلالها على النفسية الروسية. ولنأخذ على سبيل المثال انهيار الاتحاد السوفيتي الذي شكَّل صدمة عنيفة للروس. فهذا الكيان الكبير كان بالنسبة لهم كالأب بالنسبة لأطفاله. فعندما يُفقَد الأب الذي كان يُعدُّ صمام الأمان في جميع أمور الحياة والذي حقق نجاحات عظيمة في جميع الحقول وخلال فترات قصيرة نسبياً (على سبيل المثال وصل الشيوعيون إلى الحكم في عام 1917م، أسسوا اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية المعروف بالاتحاد السوفيتي في عام 1922م، ووصلوا إلى الفضاء في 1961م!)، عندما يموت الأب الذي كان هو القدوة والنموذج الذي يرى أبناؤه أنه لابد لبقية الآباء أن يحذوا حذوه، فعندما يُفقد مثل هذا الأب فبالتأكيد سيصاب أبناؤه بصدمة نفسية كبيرة. وهذا بالتحديد ما حصل للشعب الروسي بعد انهيار دولتهم العظمى. فلم يخطر ببال أحد آنذاك أنه من الممكن أن ينهار نظام بهذه القوة والتمكن والتغلغل. لقد سبب تفكك الاتحاد السوفيتي للمواطنين حالة ضياع وفقدان توازن استمرت إلى نهاية التسعينيات الميلادية (بدأت روسيا تستعيد شيئاً من عافيتها في عام 2003). أود هنا أن أعلق على انهيار الاتحاد السوفيتي الذي أرى أن سببه الرئيس هو محاولة صهر ما لا يمكن صهره!
إن مثل هذه الأحوال القاسية التي أدت إلى تدهور كبير في المجالين السياسي والاقتصادي بالذات، ولَّدَت في الشخصية الروسية الشك والريبة والتخوف، فالآخر بالنسبة للشخص الروسي هو شخص سيء إلى أن يثبت له العكس. ومن مظاهر التخوف والريبة أن بعض الناس في الوقت الحالي يفضل أن يحتفظ بأمواله في منزله خوفاً من أن يحدث أمر ما كما حدث في 1991 من انهيار للدولة ومؤسساتها.
السمة الثانية.. النزعة إلى التعقيد: يميل الروس كثيراً إلى التعقيد والإسهاب غير المبرر في أحيان كثيرة في تفكيرهم وكتاباتهم. سأشرح ما أعنيه بالتعقيد في المثال التالي: عندما يكون هناك نقطة (أ) ونقطة (ب) ويمكن الوصول من إحدى النقاط إلى الأخرى بشكل مستقيم وسهل فإن الشخص الروسي -في الغالب- لن يسلك هذا الطريق السهل والواضح، ولكن سيلجأ إلى طرق متعرجة ومتداخلة إلى أن يصل إلى النقطة الأخرى. فعلى سبيل المثال عندما يدرس عالم روسي ما مسألة علمية، فإنه لن يقوم بدراسة هذه المسألة بشكل مباشر، ولكن سيلجأ إلى سياسة (اللف والدوران) والابتعاد عن الموضوع الرئيس ثم الرجوع مرة أخرى وإدخال جزئيات ليس لها علاقة بالموضوع، وهكذا إلى أن يصل إلى موضوع البحث الأساسي. وقد يقول قائل هنا إن سبب هذا التعقيد هو عدم إلمام الباحث بالموضوع الذي يدرسه ولهذا يلجأ إلى هذه الطريقة. ولكن أقول ومن تجربة شخصية واطلاع قريب على المستوى العلمي والبحثي للعلماء الروس إنهم متميزون ومبدعون في أي مجال يطرقونه، السر في رأيي يكمن في أن العقلية الروسية ترى أن ما يتم تحقيقه بسهولة هو أمر هش وغير حقيقي ولم يُدرس بالشكل الكافي ولم يتم التأكد من صحته. وسأتحدث قليلاً عن آلية دراسة الدكتوراه في روسيا والتي تتجلى فيها بوضوح سمة النزعة إلى التعقيد والصرامة الروسية القاسية في التعامل مع الأمور العلمية. إن ما سأتحدث عنه الآن هو أمر عام يشمل جميع الدارسين سواء كانوا أجانب أو موطنين وبغض النظر عن تخصصاتهم. سأبدأ الحديث من الاختبارات: فترة الدراسة الرسمية للدكتوراه هي ثلاث سنوات يقدم فيها الطالب ثلاثة اختبارات بمعدل اختبار كل سنة: الاختبار الأول في الفلسفة، الاختبار الثاني في التخصص، الاختبار الثالث هو اختبار شامل في اللغة الروسية. اجتياز جميع هذه الاختبارات هو شرط رئيس لمناقشة أطروحة الدكتوراه.
ثانياً: الأبحاث والمؤتمرات العلمية: يجب على طالب الدكتوراه أن ينشر، كحد أدنى، ثلاثة أبحاث في مجلات علمية، وأن يشارك (وليس فقط يحضر) في ثلاثة مؤتمرات علمية. والهدف من هذا الأمر أن يتعرف المجتمع العلمي على آراء الطالب حيال الموضوع الذي يناقشه في أطروحته، وأهم النتائج التي توصل إليها في بحثه. وهذا الأمر -في رأيي- منطقي لأن من سيطلع على رسالة الدكتوراه هو عدد محدود من الأشخاص بخلاف المجلات العلمية التي يقرؤها -بلا مبالغة- آلاف المتخصصين وكذلك المؤتمرات العلمية التي يحضرها عدد كبير من العلماء. فضلاً عن ذلك، إن نشر الأبحاث والمشاركة في الملتقيات العلمية هو أمر مفيد جداً للطالب نفسه، فهي فرصة عظيمة أن يتعرف على آراء العلماء والمتخصصين حيال ما توصل إليه من نتائج وأفكار ويستفيد من توجيهاتهم، وبالتالي يكون لديه فرصة أن يحسن من جودة علمه. إن هذه الممارسة مفيدة وأتمنى أن تطبق في جامعاتنا لكي ينشأ لدينا ما يسمى بـ»الحياة العلمية». اختم هذه النقطة بأن أشير إلى مسألة هامة: إذا افترضنا أن طالباً ما أنجز أطروحة دكتوراه رائعة ولكنه لم ينشر إلا بحثين فقط فإنه لا يجاز، أي لا تتم مناقشته حتى ينشر ثالثاً، وهذا الأمر يجري على المؤتمرات كذلك.
ثالثاً: مرحلة مناقشة رسالة الدكتوراه: لعلي لا أبالغ إذا أسميت هذه المرحلة بمرحلة العذاب! ستدرك عزيزي القارئ سبب هذه التسمية بعد أن تقرأ ما سيأتي. فبعد أن يجتاز الطالب جميع الاختبارات وينشر الأبحاث المطلوبة ويشارك في المؤتمرات وينجز أطروحة الدكتوراه، يصل أخيراً إلى مرحلة المناقشة التي تتم على النحو التالي: يتم تحديد موعد لعقد المناقشة الأولى في القسم الذي ينتمي إليه الطالب، ويتم كذلك اختيار المناقشين من بين أساتذة القسم. فيقوم، أي الطالب، بطبع نسختين من بحثه ويقدمه للمناقشين قبل شهر من تاريخ المناقشة. إذا قرر المناقشون أن المستوى العلمي للبحث ضعيف فإن الطالب لا يجاز للمرحة التالية ويجب عليه أن يتلافى الأخطاء التي وقع فيها ويحسِّن من مستوى بحثه ثم يقدمه مرة أخرى للمناقشة. أما إذا كان مستوى البحث جيداً فينقل الطالب إلى المناقشة الثانية والتي تتم على مستوى الكلية، إذ يقوم رئيس المجلس العلمي في الكلية بتكوين لجنة مناقشة من ثلاثة أساتذة (يختلفون عن أعضاء لجنة المناقشة الأولية)، يقومون بمثل ما قام به أعضاء المناقشة الأولى، فإذا أوصوا بجودة العمل يجاز الطالب إلى المرحلة الثالثة والأخيرة. وبعد اجتياز الطالب المرحلة الثانية يقوم بإعداد مختصر لأطروحة الدكتوراه لا يتجاوز عدد صفحاته سبعاً وعشرين صفحة، ويقوم بإرساله قبل شهر من موعد المناقشة الثالثة إلى المكتبات الرئيسة في روسيا، وذلك لكي يتسنى للباحثين والمتخصصين الآخرين الاطلاع على البحث ويكون في متناول الجميع. ويرسل المختصر كذلك إلى الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية. وإذا كان لدى أحد المنتسبين إلى هذه الجامعات والمعاهد استفسار أو ملاحظة فإنه يقوم بإرسالها إلى الجامعة التي ينتمي إليها الطالب والتي بدورها تسلمها للطالب الذي يجب عليه أن يرد على الاستفسارات الواردة، وذلك أثناء المناقشة الثالثة. بعد ذلك يتم تحديد لجنة المناقشة الأخيرة التي تتكون من أستاذ يحمل درجة الدكتوراه في العلوم (وهي درجة -على حد علمي- لا توجد إلا في روسيا، يحصل عليها الشخص بعد الحصول على درجة الدكتوراه المتعارف عليها PHD تتراوح فترة الدراسة فيها من خمس إلى سبع سنوات، وأحد أهم شروط الدراسة للحصول على هذه الدرجة هو أن يكون المتقدم قد ألف ونشر كتاباً في تخصصه)، ومن دكتور بدرجة أستاذ مشارك، وجهة تعليمية (جامعة أو معهد). بعد ذلك تعقد المناقشة الثالثة والأخيرة واتي يتحدث فيها الطالب عن رسالته ويرد على ملاحظات المناقشين ويجيب على الاستفسارات سواء كانت من الحضور أو الواردة من خارج الجامعة. وفي نهاية المناقشة يقوم أعضاء المجلس العلمي للجامعة بالتصويت على منح الطالب درجة الدكتوراه. وبعد هذا السرد المختصر لهذه العملية المعقدة يعتقد البعض أن النهاية المنطقية لهذه الرحلة الطويلة والشاقة هي المناقشة الأخيرة التي تنتهي بالتصويت. ولكن في الواقع الأمر لا ينتهي عند هذا الحد!
ما يحصل لاحقاً هو الآتي: يتم جمع كل ما تم في المراحل السابقة في ملف ويحول إلى «اللجنة العليا المانحة للشهادات العلمية»، وهي لجنة مستقلة، قرارها نافذ على جميع مؤسسات التعليم العالي في روسيا. تقوم هذه اللجنة بمراجعة جميع ما تم في المناقشات الأولى والثانية والثالثة وتتحقق من الالتزام بجميع شروط مناقشة أطروحة الدكتوراه. وبعد أن تتأكد من أن العملية تمت بشكل سليم تصدر قرارها الذي على أساسه يصدر وزير التعليم والعلوم قراراً بمنح درجة الدكتوراه. قد يعتقد البعض أن ما ذكر فيه نوع من المبالغة ولكن هذا هو الواقع، بل وحاولت أن أوجز كثيراً، ومَن درس في روسيا يعرف هذا الأمر جيداً! أعتقد أنكم قد فهمتهم الآن لماذا استخدمت كلمة «العذاب»! وبعملية حسابية بسيطة نجد أن بحث الدكتوراه قد عرض على تسعة أشخاص!
إن هذا السرد المختصر لآلية دراسة الدكتوراه في روسيا يعكس بشكل جلي الميل إلى التعقيد والصرامة التي يراها بعض الناس مفرطة في التركيبة الشخصية الروسية. بهذه الطريقة يتعاملون مع الكثير من أمور الحياة، فهم يرون أنه كلما كانت المراحل أكثر وعملية التمحيص والتدقيق أطول وعدد المشتركين فيها أكبر، فإن هذا كفيل باكتشاف الأخطاء والتجاوزات وتعديلها، وبالتالي تكون النتائج أقرب إلى الدقة والكمال.
وفي النهاية أقول إن الشخصية الروسية هي شخصية من نوع خاص جداً، ففيها سمات غربية صرفة ولكن فيها كذلك ملامح شرقية مبهرة، والنجاح في التعامل معها يعتمد على معرفة مفاتيح هذه الشخصية. ولهذا أنصح من يتعامل مع الروس بأن يكون في فريقه التفاوضي شخص يعرف كيف يفكر الروس!
هذه لمحات بسيطة عن الشخصية الروسية، وهي خلاصة تأملات ومتابعات شخصية قد يختلف بعض الناس معي حولها، أردت أن ألقي شيئاً من الضوء على هذا الشعب الغامض للكثير منا.
إن أبلغ من يصف الروس هم الروس أنفسهم، ولهذا فإنني في هذا المقام أستحضر أبياتاً شعرية رائعة للشاعر والدبلوماسي الروسي توتشف يصف فيها روسيا أيام الإمبراطورية الروسية فيقول:
لا تفهم روسيا بالعقل
ولا تقاس بالمقاييس
إذ إن لديها قواما خاصا
ليس لك إلا أن تؤمن بروسيا!
- أستاذ اللغة الروسية ودراسات الترجمة المساعد - كلية اللغات والترجمة - جامعة الملك سعود
للتواصل: ALBADR15RU@YAHOO.COM