فجر برنامج “الثامنة” الذي عرض مساء الثلاثاء من الأسبوع الماضي 5 يونيو 2012 بقيادة الإعلامي الواعي داوود الشريان جراح مئات الآلاف من النساء اللاتي يتعرضن بشكل مستمر لأنواع مختلفة من العنف، وكان أبرزها وضوحاً أم يوسف التي ظهرت في البرنامج مثقلة بجراحها الجسدية والنفسية والعقلية هي وأطفالها الذين جعلهم النظام القانوني والثقافي المحيط لقمةً سهلةً يتقاذفها من لا ذمة لهم،
بدءاً بطليقها (الذي) كان سيكون في غياهب السجون الآن لو كان القانون يضع قيمة إنسانية للمرأة والطفل ولا تضيع فيه حقوقهما عبر النقاشات الثقافية، وانتهاء بالشرطة والمحكمة ممن هم أطراف مؤسسة لهذه النقاشات العقيمة.
من الواضح أن (الكرة) النسائية (المعنفة) يسهل تقاذقها بين كافة الأطراف الداخلة في الموضوع من أهل وشرطة وقضاة، لأن هناك شبه إجماع (ثقافي) على عدم تجريم العنف ضد المرأة باعتبارها أحد ممتلكات الرجل. أليس طريفاً أننا نحن النساء نردد بفرح حين تخطب أي منا (متى بتتملكين؟؟) أي من تملك: أي أن تنتقل ملكيتك من الوالد الى رجل آخر.. لذا لابد من نقل هذه الملكية في الأوراق الرسمية أولاً وشطب اسم البنت من دفتر عائلة ابيها بتمليكها لرجل آخر تنتقل ملكيتها إليه بإتمام مراسيم (الملاك) ليصبح الأمر متوقفاً بعد ذلك على درجة إنسانيته وتربيته وخوفه من الله. وتخيل كم لهذا المجتمع (المملوكة نصف نسائه للنصف الآخر من رجاله)، كيف لهذا المجتمع أن يكون حراً!!!!.
ولم تقف مأساة أم يوسف على سوء حظها في سيدها، بل لعبت العوامل الثقافية والحضارية دوراً لتأكيد حظه في تملكها وتعذيبها بما يتوافق مع القانون وبما لا يجرمه: فالقانون ينص على أنه طالما لم يسبب الإيذاء الواقع على المعنفة إصابة تتطلب علاجاً مستمراً في المستشفى لمدة لا تقل عن خمسة عشر يوماً، وطالما لم يسبب الإيذاء الموقع فقداً لأحد الأعضاء الحية أو وفاة، فلا يمكن تجريمه بمثل ما تفضل بشرحه ببراعة الأستاذ المحيميد، مما يعني أن كافة الأطراف الداخلة، وكما هو واضح من النقاشات عبر الحلقتين من رجال وأهل وشرطة ومحكمة وقضاة، تعاني مشكلاً ثقافياً في علاقتها بالمرأة، باعتبارها (كما يرى الرجل والثقافة السائدة التي ربي عليها وتأكدها قوانين وممارسات الهيئات التشريعية والتنفيذية والعائلية)، بأن المرأة (أدني) وهي (أقل ) (عقلاً) (ومكانة) مما يجعل من المقبول تعنيفها وحرمانها وتضييع أطفالها طالما الجميع (امرأة وأطفال) في حكم القانون (مملوكين) للرجل.
لكن بالطبع لو نظرنا للأمر من زاوية إيجابية، فارتفاع عدد المبلغ عن تعنيفهن لا يعني أن الظاهرة ارتفعت بل يعني فقط أن وعينا بوجودها ورفضنا لها قد زاد، لكن المدهش أن المؤسسات الرسمية التي تشهد يومياً هذه القضايا مثل الشرطة والمحاكم لم تساهم بشكل مؤسس ورسمي في التأسيس لهذا الوعي، بل قامت به جمعيات نسائية أهلية وناشطات نسائيات وحقوقيات نشعر بوجودهن في المناطق الرئيسة مثل الرياض وجدة والدمام، لكن من الصعب أن تصل جهودهن الى المناطق النائية والريفية، حيث لا شك تعاني المرأة أنواعاً مريعة من العنف كما هو مع هذه المعنفة التي ظهرت في حلقة الشريان وغيرها مما لا نعرف ولا نسمع عنهم، أو قد نسمع أحياناً مما ينشر في الصحف لغرابة القصة، ولكننا لا نفعل شيئاً لهن مثل قصة تلك الصغيرة في إحدى المناطق (لا أتذكر المنطقة: نشرت في جريدة الحياة قبل شهر تقريباً) والتي دأب والدها الاعتداء عليها طوال طفولتها حتى جاءتها الجراءة لقتله وهي في السادسة عشرة، وها هي الآن تقبع في غياهب السجون لتدان كقاتلة!!
وحتى مجلس الشورى الذي يفترض فيه (نظرياً) أن يضم صفوة المجتمع من رجال ونساء أمضى خمس سنوات للرفع بالقانون الذي يجرم العنف ضد المرأة لمجلس الوزراء، حيث نتمنى (ونتوقع) بعد هذه الحلقة إن شاء الله إقراره.
ما هي الأشكال المختلفة للتعنيف ضد المرأة؟ ولماذا يكون العنف بأشكاله الظاهرة والرمزية مقبولاً في ثقافة ما مقارنة بأخرى؟ ولماذا يتعقد النظام البيروقراطي أمام المرأة المعنفة وأطفالها للخلاص من هذا العنف ويسهل الهرب لمعنفها في حين يتم تجريمه بسهولة في دولة أخرى؟ لماذا يوظف مجتمع ما أمواله وجهود رجاله ونسائه لملاحقة الرجل المعتدي وحماية الأطفال أولاً والأم برمي المعنف (رجلاً كان او امرأة) في غياهب السجون إذا تكرر التعنيف، في حين تماطل مؤسسات رسمية كالشرطة والمحاكم والقضاة على اختلاف خلفياتهم الثقافية والأسرية والتعليمية وعلى حسب أعمارهم والمرحلة الحضارية التي يعيشون في ظلها (فجر الصحوة أم قبل) في إقرار هذا الحق في بلدان أخرى مثل ما يحدث لدينا؟
هي أسئلة يجب طرحها والنظر فيها من زاوية ثقافية أولاً، لأن ما يساعد على قبول القانون والتعاطف معه ليس فقط إقراره، وهو طبعاً ما نتمنى، بل أيضاً وأيضاً تغيير قناعات المؤسسات التي ستلزم بتنفيذه من شرطة ومحاكم وأهالي للنظر إليه كحق طال غيابه وليس كشر سيزيد من قوة المرأة ويساعدها على التمرد على (مالكها)، فرجل الشرطة البسيط التعليم مثلاً سيعمل على تهميش أي قانون يساعد المعنفة التي تأتي إليه لشكوى او تحول له من بعض المؤسسات الأهلية أو الحكومية إذا رأى (ثقافياً) بأن ذلك كثير وأن المرأة ليس لها إلا زوجها ليؤدبها ويرعاها، وهو الحال بالنسبة لقاض مأزوم بقضايا يرى أنها أكثر أهمية كقتل او مخدرات او إرث بالنسبة لقضية امرأة يتسلى زوجها بضربها كل مساء.
ما هي الحلول المطروحة؟ كما تطالب بها الجمعيات النسائية والناشطات الحقوقيات؟ أولاً: التطهير الثقافي كما أسميه لموضوع المرأة في علاقتها بالرجل عن طريق التعريف بحقوقها وقيمتها الإنسانية والشخصية، أي معالجة القضايا الثقافية العالقة بشأن المرأة، ولن يتأتى ذلك إلا حين تقوي المرأة نفسها بإقرار قوانين تحميها وتجرم الاعتداء عليها، أي وهي الخطوة الثانية التي يجب أن تتضمن إقرار وثيقة لأحكام الأسرة والأحكام الشخصية. وثالثاً إقامة محاكم أسرية طال انتظارها ويتغنى النظام وزارة العدل بفكرة إقامتها في كل تجمع أو لقاء عالمي اليوم دون أن نراها مفعلة على أرض الواقع!
نحن كناشطات نعرف أن هناك الكثير من النوايا الحسنة تجاه إصلاح أوضاع المرأة. لكن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي بل يلزم اتخاذ قرارات (شجاعة ثقافياً) وقد تكون صادمة لبعض الفئات (المسيسة) فكرياً باعتبارها تمكيناً غير ضروري للمرأة يخرجها من نطاق سيطرة الرجل: الراعي القانوني والمالك للأسرة... لكن ألم يحن الوقت لأن ننظر للأسرة بشكل إنساني أكثر وأنها فعلاً تتشكل بفعل مخلوقين: المرأة والرجل ثم أطفالهما، وأن احترام الحق الإنساني لكليهما وحفظ حقوق الأضعف وتثبيته في القانون الرسمي -وهو هنا المرأة والأطفال- حفظ حقيقي لكيان الأسرة ولهؤلاء الأطفال الذين يدفعون في العادة ثمن كل هذا التشويش الذي يطال أمهم ويتحولون مستقبلاً الى مجرمين ومعنفين لزوجاتهم كما شاهدوا آباءهم يفعلون بأمهاتهم.