كلما طالعت مقالاً أو قرأت فكرة أو استمعت لرأي، أجد تنديداً صريحاً وموجهاً لليبرالية والليبراليين، وحرصاً كبيراً على إظهار الازدواجية في فكر الليبرالية استشهاداً بكثير من الأمثلة التي تجسد الخطأ بمفهومه العام، فأي خطأ في السلوك أو المعتقد يتم رصده ومن ثم ربطه بالفكر الليبرالي
أو العلماني أو غيرهما من مناهج، فيدان به صاحبه ويبدأ التنكيل بالفكر عامة من خلاله، دون تحكيم العقل لترجيح تفرد وعدم تبعية صاحب الخطأ، فيكفي أنه أقدم على الفعل غير الصواب أياً كان نوعه أن يتم وصمه بل وتتبيعه لليبرالية أو حتى للعلمانية على أقل تقدير وفي أحسن الأحوال والموازين.
المجتمع الذي تكثر فيه المعتقدات المخالفة أو السلوكيات الخاطئة، هو في نظر العامة مجتمعاً ليبرالياً، فيكفي أن يخرج أحد أفراد هذا المجتمع برأي معين حول قضية معينة لوصمه بالليبرالية، فينجرف البقية دون وعي أو ترو لمنزلق التنكيل بالفكر والتركيز عليه نقداً وتجريحاً وترك صاحب الرأي الخطأ يسرح بما يحمل من أراء تتقاطع خلافاً مع هؤلاء، ويكفيهم أنه خرج من مجتمع صغير ديدنه الإيمان بمعتقدات مخالفة ويغلف سلوك أفراده صبغة مختلفة عن الجماعة فيؤدي ذلك بهم لفهم مضمون الوصف والشريحة التي تم وصف الشخص بانتمائه لها، وينطلق الفهم الخطأ وتبدأ مرحلة جديدة من انتقال المفهوم الذي وصل خطأً إلى شرائح أخرى ويتداول الناس بعدئذ تلك الأوصاف ويلصقونها بأي شخص وبأي مكان فيزداد خطأً تأثير غالبية الحراك الذي يتم في هذا المجال ومن ثم تداوله وتوارثه أفقياً عبر تناقله من مجتمع صغير إلى مجتمع أكبر، وهو في حقيقته حراك أعمى، فغالبية من يعتقدون بوجود تصنيفات سواءً دينية مذهبية أو فكرية أيدولوجية لا يعلمون مفهومها الحقيقي ولا بُعدها الإستراتيجي ولا تأثيراتها النفسية والاجتماعية ولا الغايات التي من أجلها أُوجدت وخلقت ولا الأهداف التي يُرجى لها تحقيقها، جُل ما يذهبون إليه هو نعت الأشخاص بموجب ذلك المذهب أو التيار والتحدث بشكل لافت ومكثف عنهم حتى يتم إقناع الناس بذلك دون إدراك من الناعت لما ذكرت من أهداف وغايات ودون معرفة من الناس لمعنى ذلك المفهوم حتى يصل الأمر بهم للاعتقاد بأنه إذا قيل فلان يحمل فكراً ليبرالياً مثلاً حتى تنطلق التغريدات التي تحمل التعويذات ثم يبدأ الجميع بالتحسب لله عليه، وإذا قيل بهتاناً أن فلان يتبع المذهب الديني الفلاني بدأ الآخرون بالتهليل والتكبير والدعاء عليه، وأحياناً قليلة ونادرة بالدعاء له بالهداية ثم يبدأ الحراك الاجتماعي بعزله والاستمرار بالحديث بشراهة عنه وعن تصرفاته وأحواله.
هذا التوصيف القاتل الذي يؤدي في كثير من أشكاله إلى تحطم الشخصية وانعزال وانطواء صاحبها أو من تم وصفه بصفات ليست به، وفي بعض أشكاله الأخرى إلى اشتهار صاحبه وكثرة الحديث عنه، فيعجب بذلك بعضاً ممن يرغبون بالشهرة فيستغلون الأمر ويصبح كل من أراد ارتكاب ما يخالف الطبيعة يزعم بتفاخر انتمائه لتيار فكري أو ديني أو جماعة أو حركة أو مذهب أياً كان نهجه أو معتقده، وهو يظن أنها تحميه وتكفل له تقبل الطرف الآخر لما يفعله.
لذلك ولعدم فهم الكثيرين للأسباب الحقيقية لوجود تلك التصنيفات وعلو كعبها ورواجها بشكل لم يألفه العامة على هذا القدر، يتخذونها مطية لتمرير أفعالهم بغية الحصول على قبول اجتماعي أو تبرير ما يرتكبونه من أفعال خاطئة أو لنيل شهرة كانت ولازلت عصية عليهم عبر طرائقها العادية.
عدم الوعي بمفهوم تلك التصنيفات وإلصاقها بالآخرين دون إدراك لمضمونها يُعتبر بحد ذاته نقصاً لا يُمكن قبوله ولا احترام من قال به أو كتب عنه حتى لو كان على المستوى الفردي أو الجماعي، أما عدم مفهوم أبعاد وأهداف وغايات المراد من انتشار تلك التصنيفات واعتماد الناس عليها في تقويمهم لغيرهم فهذا وربي أخطر ما يواجه الأمة اليوم.
لقد حذرت سابقاً من أن كثيرا من أعداء الدين وعبر حرصهم على تكريس تلك التصنيفات المذهبية إنما يرمون إلى محاولة تحويل الدين الإسلامي الأكثر انتشاراً ولله الحمد في العالم إلى تيار وليس دينا، والتيار إلى مذاهب والمذاهب إلى حركات وهكذا، حتى بتنا نسمع اليوم مسميات لمذاهب حديثة تم اختلاقها لزيادة عدد المذاهب داخل الدين من أجل تحقيق الهدف الأسمى وهو كما ذكرت تحويل الدين إلى تيار في محاولة للسيطرة على سرعة انتشاره من خلال تعدد مذاهبه الأمر الذي سيجعل الناس متفرقون ينتمون إلى مذاهب متشعبة يتنابذون بالألقاب ويتبادلون الشتائم ويحرضون بعضهم البعض بل ربما فعلوا ماهو أكثر دفاعاً عن ما تم إقناعهم به من تبعية، الأمر الذي يؤدي إلى تشويه صورة الدين وتكريس انطباعات تحزبية طاردة تأخذ صفة التقاتل والتخاصم ما ينتج عنه إبعاد الناس عن اعتناق الدين الإسلامي وبالتالي تحقيق الهدف.
فمفردات كوسطي وسلفي ووهابي وأصولي على سبيل المثال لم تكن موجودة أصلاً وإنما تم إيجادها و اختراعها ومن ثم تداولها لتفكيك اللحمة بين الناس عبر ترويج تلك التصنيفات التي تؤدي إلى تفتيت الكيان الإسلامي بشكله العام.
أما على الصعيد السياسي، فالموضوع أكبر من ذلك حيث يجدون أن التيارات أو الحركات السياسية باتت تعتمد الطائفية المذهبية منهجاً فلا يمكن لديهم أن يتم اليوم فصل من يتخذ الليبرالية فكراً عن الدين، بحيث يتم وصفه بالفاسق على أقل تقدير إن لم يتم تكفيره، وتجدون بعض العامة يرددون عبارات الاستنكار والتهكم والهجوم ومن ثم الدعاء على شخص بمجرد ذكر اسمه لمجرد أن فلاناً قد نعته سابقاً بالليبرالي، والليبرالي أصبح اليوم قرين من يتبع المدرسة العلمانية أو الماركسية أو الشيوعية وجميعهم في نظر أولئك كافرون أو ملحدون، ولعمري أن غالبية أولئك الناعتون لا علم لديهم بالمفاهيم الحقة لما سبق من مدراس أو تيارات فكرية سوى أنها معادية للأديان ولا تعترف بوجودها ولا تلتزم بالتالي بالعبادات وليس لديها أخيراً ثوابت عقائدية.
لابد إن أردنا تغييراً حقيقاً أن نعي أولاً الغاية من أن انتشار تلك التصنيفات سواءُ الدينية أو السياسية وعي حقيقي لا يشوبه ظن أو شك، نعي أن وجودها ما هو إلا مخطط لتفكيك الأمة وإضعافها فكرياً وعقائدياً وبالتالي السيطرة عليها سواءً في عدم انتشار الدين الإسلامي الذي بات انتشاره الكبير اليوم يمثل لهم حقيقة مزعجة وواقعا مؤلما لابد لهم من إيجاد حلول عاجلة للسيطرة عليها، أو في عدم توحد المسلمين على نهج سياسي واحد أو أكثر أساسه الدين، ثم نعمل على تفادي ذلك والحد من انتشاره.
على أئمة المساجد والخطباء اليوم وأصحاب الأقلام وكل من تصل له كلمة أو يستمع أو يقرأ له أحد أن يسعى جاهداً لتحقيق ما سبق، ألا يكفي أن الرجل الأول في هذه البلاد حماها الله وحماه ووفقه وسدد خطاه على الحق قد صرح كثيراً بوجوب عدم ترديد تلك التصنيفات وأن لا يتم اتخاذها وسيلة لوصف الناس؟ ثم ألم يعلمنا نبي الرحمة الرسول الكريم وخاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة والتسليم أن نقدس ونحترم جوهر الإنسانية في الإنسان، وأن نغضب لهذه النفس الإنسانية في جوهرها المجرد من كل عنصر إضافي.
ثم ألم يذكر الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله الإنسان بلا إضافة (ولقد كرمنا بني آدم).
وفيه أيضا (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك..) أليس علينا جميعا بعد ذلك أن نحذر؟.
إلى لقاء قادم إن كتب الله.
dr.aobaid@gmail.com