يَتألَّم أَشدَّ التألُّم كل مخلص لأُمَّته وهو يرى الكثير من صفحات تاريخها، الذي شاهده وحاضرها الذي يعايشه، مُسوَّدة قبيحة المنظر حتى كاد يعتقد أن كثيراً من المُتحكِّمين في أمورها غير قادرين على أن يَتَّصفوا إلا بكل ما هو سيء من الصفات. كان مما شاهده كاتب هذه السطور
هيمنة الشيوعيين في العراق على ذلك البلد في عهد عبدالكريم قاسم، الذي قاد الانقلاب العسكري ضد الحكم الملكي عام 1958م. ولقد ارتكب أولئك الشيوعيون؛ مسنودين من الاتحاد السوفيتي، أعمالاً شنيعة؛ سحلاً للمخالفين لهم من ذوي التوجُّه القومي العربي أو الإسلامي في الشوارع، وتعليقاً لهم على أعمدة الكهرباء. بل إن منهم من دفنوا الناس أحياء، كما حدث في كركوك عام 1959م.
وما ارتُكِب في العراق حينذاك ارتُكِب أفظع منه نتيجة الاحتلال الأمريكي له، الذي كان مما أدى إليه أن:
سُلِّمت بغداد في طبقٍ
لعلوج الحقد من ذَهبِ
وتَلظَّى في مرابعها
مُستطير الرُّعب من لَهبِ
ومن المؤسف والمؤلم كُلَّ الإيلام أن ما ارتُكِب في العراق ارتُكِب في أقطار عربية أخرى بينها لبنان حيث ارتُكِبت مجازر فظيعة في حرب أهلية شنيعة.
وكنت قد نشرت قبل عام مقالة أشرت فيها إلى تَكرُّر مشاهد السيوف العربية مُجتزَّة رقاباً عربية في ليبيا واليمن وسوريا بأساليب قد تختلف درجات بشاعتها، لكنها تَظلُّ همجية السلوك وحشية الممارسة. ومن المؤلم أَشدَّ الإيلام أن المُتحكِّمين في الأقطار الثلاثة لم يكفهم تَحكُّمهم بأمور شعوبهم عقوداً من الزمن تَسلَّطوا خلالها ما طاب لهم التسلُّط، ونهبوا من ثروات تلك الشعوب ما راق لهم النهب. بل أَصرُّوا واستكبروا استكباراً؛ مُتمسِّكين بالسلطة تَمسُّك من لا يرى له حياة بدونها مهما كانت نتائج هذا التمسُّك. وقلت: إني لأعتقد أن أولئك المُتحكِّمين سينتهي تَحكُّمهم، لكن ثمن نهاية هذا التحكُّم مرتفع غاية الارتفاع، وإن من هم السبب في اضطرار الشعوب إلى دفع الثمن لن يكون سِجِّل تاريخهم إلا مُلطَّخاً بما يشينه.
أما النظام، الذي كان مُتحكِّماً في ليبيا، فانتهى بعد أن دُفِع ثمن مرتفع جداً لإنهائه. وكانت الأداة الأساسية لذلك الإنهاء تضحية الشعب الليبي. على أن المساعدة الخارجية لذلك الشعب كانت أمراً مُرًّا حَتَّمه الأمر منه؛ إذ لو لم تحدث تلك المساعدة لكان من المرجَّح جداً أن يرتكب ذلك النظام الإجرامي الحافل تاريخه الأسود بمختلف الجرائم وأنواعها مجزرة؛ بل مجازر، يصعب تَصوُّر فداحتها. ولو لم يكن من تلك الجرائم إلا المذبحة التي قُضي فيها على ألف ومئتي سجين دفعة واحدة لكفت دليلاً على رجحان إقدام ذلك النظام على ارتكاب مجزرة أو مجازر فظيعة. ومما ذكرته وسائل الإعلام أن انتهاكات عرض قد ارتُكِبت هناك. ومن المعتقد أن من ارتكبوا تلك الانتهاكات هم من أولئك المرتزقة الذين استخدمهم القذافي وأعوانه للدفاع عن نظامه ضد الثائرين عليه.
وأما النظام، الذي كان مُتحكِّماً في اليمن، فأطيح برأسه بتصميم أكثرية الشعب اليمني وثباتها، والأمل كبير في أن تُزَال بقية أعضاء جسد ذلك النظام الفاسدة وإلا ذهبت التضحيات وجهود ذوي النوايا الطيبة أدراج الرياح.
وبقي من تلك الأنظمة الثلاثة المشار إليها سابقاً النظام في سوريا، التي كانت قلباً عروبياً نابضاً بمشاعر الأُمَّة. لقد هَبَّت أكثرية الشعب السوري، منذ عام وخمسة أشهر، تنشد الحُرِّية بطريقة سلمية. ومضت أكثر من ستة أشهر وهي تحاول أن تبقى هَبَّتها سلمية الطابع رغم أن النظام المُتحكِّم ظَلَّ يتعامل معها بالبطش وارتكاب المجازر الفظيعة؛ مجزرة تلو أخرى. ولم يعد في الإمكان أمام إصرار ذلك النظام على مواصلة البطش وارتكاب المجازر إلا محاولة حماية المدنيين الأبرياء السلميين وإن بالقوة. لقد تَنوَّعت وحشية تلك المجازر، التي طالت الجميع؛ رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً. وامتدت الهَمجيَّة والحقد الواضح إلى الاعتداء على الأعراض؛ الأمر الذي لم يكن يَتوقَّع أحد أن يحدث في سوريا العربية المسلمة.
ما الموقف حتى الآن من كل ما ارتُكِب وما زال يرتكَب في سوريا من بطش وتدمير؟
سطوة النظام قوية من أدوات محاولة تَمسُّكها بها؛ داخلياً، وجود أكثر من عشر جهات أمنية واستخبارية تعمل كل جهة منها لصالحها وصالح رئاسة النظام؛ حَذرةً من الجهات الأخرى أن تُوقِع بها. ولهذه الخطة الجهنمية ما لها من إثر يدركه المتابعون للأمور غاية الإدراك. على أن مما يلفت النظر تَأخُّر أغلبية سكان حلب المدينة الثانية بعد العاصمة دمشق في الانضمام إلى الهَبَّة الشعبية باستثناء طلاب جامعاتها وأهل ريفها. وعدم مسارعة تلك الأغلبية في تلك المدينة الكبيرة إلى الانضمام إلى أكثرية شعبهم أمر يعلمه السوريون أكثر من غيرهم. لكنه، على أي حال، كان عامل قوة للنظام. ويضاف إلى ذلك عدم وحدة المعارضة السياسية في الخارج حتى الآن وحدة تكفل تعاطف الآخرين القوي معهم.
أما موقف الأمانة العامة للجامعة العربية فمن أغرب المواقف. لقد نشرت مقالة قبل أربعة أشهر عنوانها: “هل يرعى الأمين العام الأمانة؟” وكان مما قلته فيها: إن ذلك الأمين بعد شهور من استمرار المجازر المُرتكَبَة في سوريا ذهب إلى هناك ليعود وفي جعبته مُجرَّد قول: “إن الرئيس السوري وعد بإصلاحات”. وبعد أن تَقرَّر إرسال مراقبين من الدول العربية للاطِّلاع على ما كان مستمراً من ارتكاب المجازر تَمثَّل موقفه في أمرين كلٌّ منهما بعيد كل البعد عن العدل والعقل. الأول اختياره لرئاسة أولئك المراقبين رجلاً يعلم الكثيرون أن سيرته لا تؤهله لحمل المسؤولية المسندة إليه. وما تَجلَّى من مواقفه تُوضِّح ذلك كلَّ التوضيح. والثاني أنه قال: إن مهَّمة المراقبين ليست معنيَّة بما جرى في سوريا قبل وصولهم إليها. فَبأيِّ وجه من وجوه العدل والعقل يتجاهل ما قام به المرتكبون لتلك المجازر شهوراً عديدة ضد من كانوا مسالمين طوال تلك الشهور، وأن المقتدرين منهم لم يلجؤوا إلى الدفاع إلا بعد اليأس من وقوف ارتكاب المجازر أو إيقافها؟ إن أقل ما يمكن أن يُسأل عنه هو: هل موقف الأمين العام للجامعة موقف من يرعى الأمانة التي حُمِّل إِيَّاها؟ إن مما تَفوَّه به في الأمم المتحدة قبل يومين يجيب عن شيء مما يتطلبَّه السؤال المطروح؛ وذلك بإصراره على تكرار عبارة: “لا نطلب التدخل بالقوة ضد النظام السوري”.
ومن الواضح أن السند الأكبر للنظام في سوريا هو الحكم في إيران. وارتباط هذا الحكم بالنظام في سوريا ارتباط قوي تَجلَّى في عدة أمور:
الأمر الأول وقوف النظام السوري إلى جانب الحكم في إيران في حربه مع الحكم في العراق أيام صدام حسين؛ مشفوعاً باعتبار الخميني الطائفة التي ينتمي إليه رئيس النظام السوري طائفة مسلمة؛ وهو أمر لم يكن مُقرًّا في المذهب الجعفري قبل وقوف ذلك النظام مع الخميني.
الأمر الثاني أن الحكم في إيران بكل ما يَتَّصف به قادته من دهاء سياسي مشهود يَعدُّ بقاء النظام في سوريا قضية أساسية بالنسبة له. ذلك أن زواله يضعف النفوذ الإيراني في لبنان، ويُهدِّد استمراره في العراق؛ وهو النفوذ الذي مَهَّد له الاحتلال الأمريكي المتصهين قادته لبلاد الرافدين.
الأمر الثالث أن ضعف النفوذ الإيراني في لبنان والعراق، أو زواله منهما، نتيجة لزوال النظام في سوريا من المُرجَّح أن يؤدِّي إلى هَبَّة داخلية في إيران ذاتها ضد الحكم القائم هناك، أو يساعد في قيامها. ومن هنا يأتي تصميم حكام إيران على إمداد النظام في سوريا؛ معنوياً وسياسياً ومالياً وعسكرياً. وهذا الإمداد عبر العراق وغير العراق لا يمكن لأحد إنكاره.
وموقف الاتحاد السوفيتي، الذي كان يساند التوجُّه الشيوعي في العراق الساحل للمعارضين في الشوارع، الدافن للناس أحياء في كركوك، يعاد تَبنِّيه اليوم من قِبَل الاتحاد الروسي؛ مساندة لنظام لم يَمرَّ على العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر نظام عربي مثله في ارتكاب الجرائم الفظيعة.
إن كاتب هذه السطور ما زال يعتقد أنه كما زال النظام في ليبيا واليمن سوف يزول النظام في سوريا، لكن الثمن المدفوع لزواله سَيظلُّ كبيراً وكبيراً جدا.
ولله عاقبة الأمور. وهو وحده المنتقم للمظلوم من الظالم.