لن أكون طعَّاناً ولا لعَّاناً, ولا معاقباً بمثل ما عوقبت به, أملاً في التشبه بخلق من إذا خيّر بين أمرين, اختار أيسرهما عليه, وعلى من حوله. والحديث عن صراع الأفكار, وصدام المصالح, ونهم المطامع, لا يتطلب بالضرورة لدد الخصام, ولا التنابز بالألقاب. ولاسيما أن الأوضاع العالمية والإسلامية والعربية والإقليمية
تنحدر باتجاه الفتن, كصخرة حطها السيل من عل. وخيار الحياد الايجابي أو الاحتواء الناعم أجدى وأهدى من تنازع البقاء, والاحتراب الذي تسيل معه الدماء والدموع معاً ثم:-
إذ احتربت يوماً فسالت دماؤها
تذكرت القربى فسالت دموعها
والمملكة حين تكون في ذروة عزها, وأوج تألقها حمالةَ المآسي مبلسمةَ الجراح آسيةً مواسيةً, يكون من شأن كتاب الرأي من أبنائها التحرف للكلمة الطيبة, والدفع بالتي هي أحسن, حفاظاً على مثمناتها وعلاقاتها, وتطهيراً لمقدساتها, وتجنيباً لإنسانها من تجرع مرارات الفتن, التي تعصف بكل أصقاع وطننا العربي، والتحيز للوفاق أو التعاذر والتسامح والتعايش, ما أمكن ذلك, اقتداء بمن يميل لأيسر الخيارين، على أن مجاراة المناوئ في خلقه أو في تصرفه تحقيق للمثلية التي عناها الشاعر بقوله:
إذا جاريت في خلق دنيءٍ
فأنت ومن تجاريه سواء
والعقلاء المجربون من يحسنون إصدار ما أورده الجهلاء, وإذا كان خيارنا المعاقبة بالمثل, فإننا من حيث نريد, أولا نريد, نسهمُ في تصعيد الهرج والمرج, ونسف جسور التواصل, وتعطيل قنوات التفاهم. ومتىَ خُيِّر العقلاء بين الطاولات المستديرة وساحات القتال, فإن خيارهم بلا شك يجنح إلى حقن الدماء, ورأب الصدع. وعلينا ونحن أمام خيارات أصعب, أن نفرق بين الوهن والهوان, والتواضع والضعة, والتسامح والخنوع, والسلام والاستسلام. إذ ربما لا يكون أمام الإنسان إلا خيار واحد و:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وقديما قيل: [مكره أخاك لا بطل], والتعاطي مع الأخطبوط الإيراني البشع, وفلتات اللسان الإخواني المريبة, يتطلبان الحلم والأناة واللين وركوب أهون الضررين. وقذيفة حشوها الكلمة الطيبة أجدى من قذيفة مليئة بالشظايا المدمرة وبالمتفجرات المهلكة, على سنن [كن عبدالله المظلوم ولا تكن عبدالله الظالم] فالكلمة الطيبة لها وقع السهام: [وما قتل الأحرار كالعفو عنهم]. وقد يتساءل المتردد: [ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا], وندرة الأحرار لا تحول دون التجربة, وتقديم حسن الظن. ولقد ينبري من يقول:
إذا قيل: رفقا. قال: للحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
ولسنا نشك أن لكل مقام مقالا, وأن لكلِّ شيخ طريقته, ولكن ما دخل الرفق في شيء إلا زانه, وليس من الحصافة والرصانة اللينُ في موضع الشدة, ولا الشدة في موضع اللين:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وحين يملك المتأذي كل الخيارات, فإن عليه الجنوح إلى السّلم, حتى وإن تأبىَّ المناصب بالعداوة. واستصحاب الرفق واللين خلق الأنبياء: [فبما رحمة من الله لنت لهم] وماذا فعلت مقولة المصطفى لأهل مكة: [اذهبوا فأنتم الطلقاء] و[من دخل دار أبي سفيان فهو آمن], وتمنعه عن قتل خصومه, خشية أن يقول الناس: [إن محمداً يقتل أصحابه], وفي [غزوة حنين] رجع المؤلفة قلوبهم بالشاء والبعير, ورجع المهاجرون والأنصار برسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد رابنا وراعنا ما نراه من تدخلات إيرانية سافرة, لتقويض قواعد الأمن, وتعكير صفو الاستقرار, وتصديع تلاحم الأمة, في دول عربيه, تفيض أوعيتها بالفقر والفاقة, تمارسها بكل جرأة دولة ترفع شعار الإسلام, ثم لا تني في تصدير العنف والطائفية والحلم الصفوي والعنصرية الفارسية. كما ساءنا ما نسمعه من فلتات ألسنة الإخوان المسلمين في مصر, من تبرير للشغب الإيراني, وارتياب من مواقف المملكة, ولقد ضقنا ذرعاً بتصريحات وتلميحات, ما كان لشيء منها أن يصدر من عوام الإخوان فضلاً عن خاصتهم, ولاسيما أننا وإياهم نسعى لإعلاء كلمة الله, وتحكيم شرعه, وقمع الفواحش ما ظهر منها وما بطن, واشتراكنا في الأهداف, يستدعي اتحادنا في الصف والكلمة. وتخلل الأعداء بألسنتهم ودسائسهم ومكائدهم تفويت لمصالح الطرفين, بوصفها مصالح مشروعة, تصب في أوعية الشعوب الإسلامية وتطلعاتهم. وإسراع أي طرف في تعميق الشقاق, وتصعيد الاختلاف حيلولة دون رأب الصدع, وتدارك الأمر, قبل فوات الأوان. إن عالمنا العربي والإسلامي يمارس حرباً كلامية, ليست بأقل خطورة من الحرب العسكرية. وإمعان الكتاب من الطرفين في الطعن واللعن تفويت لمصالح الأمة الإسلامية, وتمكين للمتربصين الذين يحتنكون, ويستدرجون, ويغوون, كما الشيطان الذي أقسم بعزة الله أن يغوي الأمة, ويضلها, ويأتيها من بين أيديها ومن خلفها وعن أيمانها وعن شمائلها, ويقعد لها كل مرصد. وهل هناك صراط أفضل من الصراط الذي تسلكه المملكة, ويتطلع إليه الإخوان المسلمون فيما يدَّعونه, وما تحمله مشاريعهم وخطاباتهم؟ ومع الاستياء من بوادر الفرقة فإن الأمل في عقلاء الإخوان ومجربيهم كبير, وكيف لا تنداح دائرة التفاؤل, والمملكة كانت ملاذهم يوم أن ضاقت بهم ديارهم, تمكنهم من التعليم والتأليف والدعوة, وتمنحهم ثقة لم يكونوا بالغيها تحت أي سلطة, ولو كانت سلطتهم. وحتى لو لم يحالف الطرفين التوفيقُ في الممارسات والعلاقات, فإن إيغال كتاب الرأي في تعميق الخلاف, والتيئيس من التقارب, وتضخيم نقاط الاختلاف, يصب في مصلحة المتربصين, الذين يظنون كل الظن ألا تقارب بين الشتيتين. وكلما مرت العلاقات العربية بلحظات فتور, أوجف المتسرعون من الكتاب بألسنتهم وأقلامهم, وأسهموا في التصعيد, ونسف قنوات التواصل. وعندما تتغلب النوايا الحسنة, وينخنس المرجفون, وتتحول أوهامهم وتهويماتهم إلى هشيم تذروه رياح التغيير, تنداح دوائر التفاؤل, وتندمل اجراح الغائرة, ويبادر الطيبون إلى رأب الصدع والتقريب بين وجهات النظر, وكم من لحظات ملتهبة, يحسن بالكتاب أن يدخلوا مساكنهم, ويرقبوا هدوء العاصفة. إن ساعات الحرج والعسرة كساعات الغضب لا يجوز اتخاذ أي قرار فيها, وتلك الحال كحال الضعف, لا يجوز أن تقحم المشاكل فيها. والكتاب الذين أوغلوا في الذم والتجريم والتخوين, يرفعون رصيد الأعداء, ويكثرون سواد الخصوم. فالإخوان ليسوا على قلب رجل واحد, وكثير من ممارساتهم تخالف مبادئهم, وهم من الكثرة والانتشار والتأثير بحاجة إلى خطاب يؤلف القلوب, وينزع الضغائن, ويضعهم أمام مسؤوليتهم. وحين نعتمد الجاهزيات من الأحكام والتعميم في الاتهام, نؤلب الرأي العام العربي, وقد نوهم المتلقي بأننا ضد خطابهم الداعي إلى أسلمة المجتمع, وتفعيل الفكر السياسي الإسلامي. وإذا لزم التصدي لأي رؤية أو قرار أو تحيز أو تحرف, لا يتفق مع مقاصد الوحدة الإسلامية فإن على الكاتب أن يحدد رؤيته, وأن يركز على نقطة الخلاف, وأن يستبعد التصدي للمبادئ والممارسات, دون تفريق, وبخاصة عند الحديث عن رموز الإخوان الأحياء منهم والأموات, ذلك أن الإطلاقات العامة, والجور في الأحكام, يسقط العدالة, ويشكك في المصداقية, ومن ثم لابد من تحديد المختلف حوله, والإشادة بنقاط الاتفاق, وبالرموز الذين لم يسهموا في محاربتنا براجمات البلاغة, ولاسيما أننا كنا من قبل ملاذا للمشردين منهم, وعونا لمستضعفيهم, ومساعدين على تصدير خطاباتهم, وإذا اختلفنا مع خلفهم الذين أضاعوا محققات التقارب, فإن الواجب على كتاب الرأي أن يركزوا على نقاط الاختلاف, وألا يتعمدوا نسف مشروعهم, فذلك خير من الإيجاف بكل إمكانياتهم, والإسهام في تقطيع الأوصال, والإمعان في القطيعة, بحيث لا يكون هناك مجال للعودة. ولأن السياسة فن الممكن فإن من واجب المفكرين وحملة الأقلام, ألا يضيقوا الخناق على المناوئ, ومن خطط المعارك النافذة, أن تدع لخصمك بصيص أمل, يحول دون اندفاعه, واستماتته في المقاومة, تحت شعار: [عليَّ وعلى أعدائيٍ], ثم إن على كتاب الرأي أن يعرفوا أننا أصحاب رسالة, وأن علينا إبلاغها بالتي هي أحسن, وأننا مهوى أفئدة العالمين, والله ندبنا لتطهير بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود. والتطهير: حسي ومعنوي, والتصدي لكل مخالف تعكير لصفو العلاقات الإنسانية مع قاصدي المقدسات, إن لنا خصوصية, تتطلب منا خيار التقارب والتعاذر, فلنكن في مستوى مسؤوليتناولنطهر أجواء بلادنا من أي كلمة نابية, قد نتمكن من تحقيق أهدافنا بأحسن منها, وإيران التي تولت كِبْر إيقاظ الفتن, لن تجني من الشوك العنب, والمملكة عبر تاريخها الحديث منيت بمواقف مشابهة, مع [مصر] و[اليمن], واستطاعت بحكمتها أن تحسم المواقف لصالحها, وأن تعيد [مصر] و[اليمن] إلى ما كان يجب أن يكونا عليه, ولها مواقف مماثلة مع ظاهرة الإخوان داخلياً وخارجياً, وفي كل فلتة يدٍ أو لسان, يسبق حلمُها غضَبَها, وأناتُها اندفاعها, وتكون العاقبة لها, وليس أجدى ولا أهدى من أن نضع الآخر أمام نفسه, ولا نُشَرْعِنُ له المبادلة بالمثل, ثم إن لنا أرحاماً يجب أن نصلها, فمصر تشكل عمقاً لمشاريعنا الإنسانية والإسلامية, وما ندم أحد مع العفو, فلنعف ولنصفح, فذلك خير لنا ولأجيالنا والعاقبة للمتقين.