مما رواه عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه - رحمهم الله- قصة جاء فيها قوله: سمعت أبي يدعو كثيراً لأبي الهيثم، فقلت له: مَن هو هذا؟ فقال: لما كنت في السجن وجاؤوا إليَّ بالسياط لضربي في محنة (خَلقْ القرآن) إذا أنا بإنسانٍ يجذب ثوبي ويقول: أنا -أيها الإمام- أبو الهيثم اللِّصّ، لقد ضربوني ثمانية عشر ألف سوط مفرَّقة ولقد صبرت عليها في طاعة الرحمن، من أجل الدين، وكلمة الحق.
ويا له من موقف جليل، موقف اللص الذي استشعر مسؤوليته نحو الإمام أحمد ونحو كلمة الحق والدين مستجيباً لفطرته المدفونة في أعماقه، ومَن يدري، لعل الله قد غفر له وهداه إلى التوبة بما قال؛ وموقف الإمام أحمد وهو يقف كالطود شامخاً في سجنه محتملاً الأذى، محتسباً ذلك عند ربه، ثم موقف الإمام أحمد وهو يتذكر أبا الهيثم بدعائه بعد خروجه من السجن بصورة لفتة نظر ابنه عبدالله ودفعته إلى سؤال أبيه عن أبي الهيثم هذا من يكون.
لقد فتح أبو الهيثم لنفسه باباً مضيئاً حينما أسْهم في خدمة الدين بكلمة وجهها إلى أحمد بن حنبل، إنَّه باب هذا الدعاء المتواصل له بظهر الغيب من الإمام أحمد، وهذا يشجع كلَّ إنسان على أن يقدِّم لدينه شيئاً مهما كان صغيراً حقيراً في نظره أو في أنظار الناس، كما رسم لنا الإمام أحمد صورة مشرقة للوفاء لذلك الرِّجل الذي قدَّم له دَعْماً نفسياً كبيراً بتلك النصيحة التي جاءت في وقتها المناسب، وكأني بالإمام أمد يقول لنفسه: هذا رجل صبر على العذاب والضرب والسجن في معصية، أفلا تصبرين أنتِ في طاعة؟
وهنا نقول لأنفسنا إنَّ الصَّبر في مواقف الحق طريق إلى نوعين من الانتصار الكبير، أولهما: الانتصار على النفس وضعفها وانكسارها، وهو انتصار يرفع من شأنها في الدنيا والآخرة إذا أخلص صاحبه نيته لرِّبه، والثاني: الانتصار على الباطل وأهله، وكشفهم أمام الناس، وتوهين قواهم التي يحاربون بها الحق، وتقوية أهل الحق الذين يرون انتصار الصابرين من أهله على الأذى في سبيله وهنالك أثر أبعد وأعمق لمثل هذه المواقف يمتد إلى أماكن متعددة وعصور متعاقبة، لأن الموقف المشرق يظل ينتقل بالرواية بين الناس حتى يتضاعف أجر صاحبه بصورة لم تكن تخطر له على بال..
إن الوقوف مع الحق عمل جليل لا يستطيع القيام به إلا أصحاب العقول الراجحة، والنفوس المطمئنة، والقلوب المفعمة بالإيمان.
إشارة:
وليس من يمتطي للمجد همَّتَه
كمن قضى عمره لهواً فضاع سُدَى