يقول جورج برناردشو: (الابتسامة عنوان الشعور، والشعور عنوان الإنسانية). ويقول الزمخشري: (ابتسامك لقبيح أدل على مروءتك من إعجابك بجميل)؛ وينسب إلى عبدالملك بن مروان أنه قال: (إن أفضل الرجال من تواضعَ عن رفعة، وزَهَدَ عن قدرة، وأنصَفَ عن قوة).
والذي يتعمّد ألا يبتسم، ويبدو عبوساً متجهماً ليبدو مهاباً، وصاحب كاريزما، ويصر على التعالي واحتقار الآخرين، فهو يتصنّع (الهيبة) لأن هيبته ليست نابعة من شخصيته على سجيتها؛ فالأغلب أنه يتكلفها لأنه يشعر في أعماقه بأنه يفتقدها.. الهيبة الحقيقية هي أن يهابك الناس وأنت تبتسم، ويحترمونك لا خوفاً منك، وإنما إعجاباً بك. الذين يعتقدون أن الهيبة مصدرها زرع الخوف والهلع والرعب في قلوب الناس، أو أنها (احتقار) الآخرين والتعالي عليهم، هم في واقع الأمر (أضعف الناس)، وأقلهم ثقة بأنفسهم، وأكثرهم شعوراً بالخوف من الآخرين، فهم بمثل هذه الممارسات المزورة يُقيمون (جُدرَ) حماية مصطنعة، تُدافع عن ذات مضطربة، قلقة، مُتوجّسة، تشعر بنقص عميق، فلا تثق بمن حولها، ويكتنفها الشك في نواياهم، وتخاف من المستقبل، فتنتفخ، وتتورم، لتوهم الناس بالقوة (المفرطة) وبالثقة بالنفس، في حين أنها إذا تعرّضت للملمات تصبح (كالبلونة) تنكمش حتى تكاد أن تتلاشى بوخزة دبوس.. والثقة بالنفس تبدأ من خلال معرفة ذاتك معرفة حقيقية دون إفراط أو تفريط؛ فكلما عرف الإنسان قدراته وإمكاناته على حقيقتها، وانطلق منها في التعامل مع محيطه الخاص والعام كلما كان أقدر على فرض احترامه على الآخرين، فيحقق الهيبة ويكرسها في نفوس من يتعامل معهم.
الدكتور أحمد عكاشة العالم النفسي الشهير والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي، يصف الرئيس مبارك بالقول: (كان مبارك يصف نفسه بالقول: «أنا عندي دكتوراه في العند»؛ ويشير الدكتور عكاشة إلى أن العنيد زيادة عن اللازم يعتــبر ذكاؤه متواضعا، لأن الذكي فقط هو الذي يُغير رأيه). والتمسك بالــرأي دون مبررات معقولة ومقبولة، ناهيك عن الإصرار على الرأي، وتسفيه آراء الآخرين، سلوكيات تُشير إلى جانب من جوانب صاحب الهيبة المصطنعة، مثلما تدل على تدنّي قدرات ذكائه وفطنته؛ فهو يعتقد أن التراجع عن الخطأ، والاستفادة من التجارب، والتخلي عن الآراء والسلوكيات، قد يهز مكانته في عيون الآخرين، ويؤثر سلباَ على هيبته؛ لذلك غالباً ما يتحول صاحب الهيبة المصطنعة إلى (بلدوزر) يهدم ما أمامه، حتى يأتي على بيته نفسه وما بناه من إيجابيات فيقضي عليها.
صحيح أن الهيبة هي أولاً (هبة) إلهية، لها علاقة بالجاذبية الشخصية، والحضور الطاغي لبعض الأشخاص دون غيرهم، غير أن مثل هذه العوامل لا يمكن أن تتحول إلى قدرات في القيادة والإقناع وأسر الآخرين، إذا لم يكتنفها ذكاء، وصقل علمي وعملي، وتطوير، بعد ذلك القدرة على توظيفها توظيفاً موضوعياً لتجعل هيبتك ذات مضمون إنساني. وغالباً ما يكون من يصطنع الهيبة لأنه وجد نفسه (بالصدفة) في موقع وظيفي أو حياتي يتطلب منه أن يكون مُهاباً، إلا أنه يشعر في أعماقه بالنقص، وعدم القدرة على الارتقاء إلى احترام الآخرين، لذلك يتكلف الهيبة ويتصنّع الثقة بالنفس ويُمعن في التعالي على الناس في سلوكياته، فيعود في الغالب من ممارسته تلك بخفي حنين، فلا هو الذي أصبح صقراً ولم يبق على وداعته كحمامة.. ولو أنه تعامل بسجيته وعلى طبيعته، ولم يتقمص شخصية الإنسان المهاب وهو لا يمتلكها، لربما كان تأثيره أعمق وقيمته لدى الآخرين أعلى من أن يلبسَ لباساً لا يليق بحجمه ولا يتناسب مع طبيعته ولا شخصيته.
إلى اللقاء.