الشعوب تصنع التاريخ والقادة السياسيون لا يستطيعون أن يتعدوا إطار التاريخ الذي يحكم الشعوب بدرجة واقعها الثقافي والاقتصادي والسياسي لكن في لحظات تاريخية نادرة وهي فترات انعطاف التحول الذي يبدو فيها أن الأمة لا تمتلك سوى طريق واحد قد فرضته الظروف والقوى الطاغية وإن المجال قد ضاق إلى درجة الصفر، وإن الأمة مكتوب عليها أن تقبل الأسوأ.
عندئذ في هذه اللحظات التاريخية والاستثنائية يبرز دور القائد الذي يستمد قراره من قدرات الأمة الحقيقية، لكنها الكافية وغير الظاهرة ويستشرف من منظورها التاريخي خطوط الغد التي لا يريد لها أن تخضع لظروف اليوم ومناخاته المتعمدة ويقتحم حدوده التي لا تكون مبنية على الوهم والخوف والهزيمة ليفجر طاقات الأمل وإرادة الرفض وعزيمة الصمود لدى شعبه.
في مثل هذه الظروف يكون بوسع القادة أن يقوموا بأدوارهم التاريخية كما لم يكن لهم في أية ظروف أخرى ويتيحون للأمة أن تنسج تاريخها الجديد بإرادتها وليس بحكم الواقع.
حدث في ألمانيا أيام بسمارك الذي خرج من التآكل الذاتي للأمة الألمانية والقسمة لعشرات الإمارات والتي كانت مطمع كل الجيران الآخرين ليفجر الإرادة الألمانية في اتجاه الوحدة ويحدد وحدة الأمة بالفعل ووضع حدا لكل الأطماع التي كانت تحيط بالكيانات الألمانية المبعثرة حدث ذلك أيضا في روسيا حين استطاعت القيادة التاريخية للينين أن تتصور بناء الحكم الإشتراكي في لحظة تاريخية نادرة وتحولت قيادته في اتجاه الحلم وسط أصعب الظروف وفي وجه معارضات تاريخية خارجية عاتية واستطاع العامل التاريخي أن يجسد الحلم بغض النظر أن بعض الحلم قد انهار وحدث ذلك في بريطانيا في الحرب العالمية الثانية حيث هوت كل أوروبا تحت جحافل الجيش الألماني ولكن أصوات كثيرة تدعو للتفاهم مع هتلر بل بعض رجال الكنيسة البريطانية دعوا إلى الاستسلام ولكن تشرشل الذي وضعته الأقدار في موضع قيادة الشعب البريطاني رفض الاستسلام للغزو النازي ورفض قبول الواقع الجديد وقاد أمته ضد التيار بل الطوفان كما بدت القوة الألمانية عندئذ تستجمع إرادة الأمة في الصمود والمقاومة بعد وعد شعبه «بالعرق والدموع والدم» واستلها من أعماق المجهول حتى تحولت هذه الإرادة إلى القوة التي تصمد أولا ثم تستجمع الرأي العالمي إلى جانبها ثم تدفع أمريكا وبقية العالم في الوقوف معه حتى النصر.
وحين سقطت فرنسا تحت جحافل الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية وأقامت فيها حكومة مارشال فرنسا وبطلها في الحرب العالمية الأولى أيد كثير من الفرنسيين هذا الحل باعتبار أن سلطته محلية فرنسية ولو تحت الاحتلال الألماني هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه لكن شارل ديجول رفض هذا الحل لأنه ببساطة يلغي السيادة الفرنسية ويلحق فرنسا بالرايخ الألماني ويخضعها تماما لقوات الاحتلال الألمانية وترك ديجول فرنسا إلى الخارج ومن لندن قاد حركة المقاومة الفرنسية، واستطاع بموقفه المبدئي أن يعيد ثقة الفرنسيين بأنفسهم وأن يزعزع التأييد الأولي لحكومة ألمانيا؛ ويستقطب القوة الوطنية ضد الاحتلال حتى اتضحت الأمور ببساطة بالغة وبذلك جسد ديجول القائد عظمة فرنسا وكرامتها وقدراتها على المقاومة حتى النصر وبعودته ظافرا إلى باريس.
وأخيرا أمامنا مثل نيلسون مانديلا الذي أمضى 27 سنة في السجن وهو يصر على موقفه إلى أن اضطرت الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا أن تسلم كافة مطالبه بعد أن أنهكتها المقاومة المستمرة والتمسك بالحق والعناد الوطني الذي لا يعرف الكلل والمساومة.