انتحار أثار حزني وتساؤلاتي!!

Wednesday 13/06/2012/2012 Issue 14503

14503 الاربعاء 23 رجب 1433 العدد

الرأي

أخرج كل صباح إلى مقر عملي الواقع في حي العريجاء الأوسط قادماً من شمال الرياض، قاطعاً مسافة طويلة يكتنفها ازدحام السيارات اليومي والدائم في مدينة كبرى كالرياض. أصبح بيني وبين الطريق حالة من الحب والتسامح والوئام،

فقد هذبني الزمن على أن أكون صبوراً ومتحملاً لما أراه أمامي من مشاكسات السيارات وعدم انضباط الكثير من السائقين الذين نراهم كل يوم. لأن الوصول إلى الهدف المبتغى في حياتك لن يتحقق باقتحام سمة السرعة غير المنضبطة والتهور الأعمى. وهكذا الحال -والحمد لله- إذ رافقتني في دروب رحلتي اليومية من وإلى شمال الرياض إذاعات الراديو المتميزة ببرامجها المتنوعة، وأخبارها المتناثرة، وفقراتها اللطيفة والظريفة.

هناك في غرب الرياض أقطع الجسر المعلق متجهاً إلى ضاحية العريجاء، فأشاهد مَعلماً جميلاً من معالم العاصمة وصناعة فريدة الطراز في بلادنا، وكأنك تعبر جسر بروكلين - مانهاتن الشهيرة في مدينة نيويورك، وليس بينهما إلا فرق بسيط، وهو أنه في الأسفل من جسرنا المعلق وادٍ سحيق وليست مياهاً كما في أمريكا.

عندما يخرج المرء إلى عمله أو لقضاء حاجاته ويقطع الطرقات السريعة لابد أن يمرِّن عينيه ويطوع عقله على مشاهدة كل جماليات الحياة وتأملاتها، فلابد أن ترى منظراً عجيباً يدفعك للتسبيح لله عز وجل، أو التفكر في مخلوقاته سبحانه وتعالى. حيث رأيت ذات مرة وأنا في طريقي إلى العمل طيراً يقف على إحدى صخور المنحدرات الجبلية الكثيرة في تلك المنطقة ويحفر له عشاً صغيراً بمنقاره الضعيف، ويحاول كسر هذه الصخور القوية بقدراته المتواضعة، ولكنه يحمل هِمةً عجيبة في ذلك الموقف. هنا أقف متأملاً في هذه الحالة بين ما رأيته من تصرف هذا المخلوق الضعيف وهو يحاول كسر هذه الصخور القوية بقدراته المتواضعة، ولكنه يحمل همة عجيبة في ذلك الموقف. هنا أقف متأملاً في هذه الحالة بين ما رأيته من تصرف هذا المخلوق الضعيف في بنيته، القوي في بعزيمته، وبين ما سمعته عن إقدام أحد الشباب على الانتحار -غفر الله له وتجاوز عنه- والذي رمى بنفسه من حافة الجسر المعلق رامياً بالحياة خلف ظهره ومودعاً هذه الدنيا.

هل يا ترى عجز هذا الشاب عن تحمل أعباء الحياة ومشاقها الصعبة بحيث لم يجد أيادي تأخذ بيديه، وقلوباً حانية تترفق به؟ ما الذي دفع بهذا الشاب أن يلقي بنفسه من على ذلك الجسر معلناً حالة الانكسار واليأس والرحيل؟! هل تدفع الحياة بضغوطاتها النفسية ومسؤولياتها الجسيمة بعضاً من الناس إلى الانتحار؟ هل هناك لحظة من التفكير السليم قد تغشى عقول هؤلاء الضحايا من الناس قبل أن يُقْدِموا على الانتحار وتعيدهم خطوة أو خطوتين للتراجع للوراء؟ حياة كاملة كُتب لها النهاية بشكل مأساوي حاملة معها الكثير من أسئلة البؤس والألم والتيه والضياع في غابة بشرية موحشة لا ترحم ضعيفاً ولا تحنو على جريح.

من هنا نتعرض نحن كمجتمع متكامل بكل فئاته وشرائحه وبتنوع بيئاته المختلفة للكثير من أسئلة الضمير التي تخرج من قلوبنا وتُلح على عقولنا، لتؤنب ضمائرنا عندما نسمع عن قصص الانتحار في مجتمعنا المسلم. فليست مسؤولية هذا الشاب - غفر الله له - منصبّة على دائرته الضيقة في نطاق الأسرة وحدود البيت فقط على الرغم من شدة أهميتهما في تكوين النمو النفسي لدى الأجيال، بل هي مجموعة من المسؤوليات الاجتماعية التي نتشارك كلنا فيها من خلال طريقة تعاملنا مع فئات متعددة إليها أو يهتم بها.

عندما يرحل إنسان عن الدنيا نبدأ بطرح التساؤلات عن علاقاتنا معه أكانت جيدة أم لا. هل كنا خير أصدقاء له، ولم نقصر بواجبنا تجاهه أم لا؟ تتقافز إلى عقولنا الأسئلة عن طبيعة علاقاتنا مع هذا الإنسان الراحل، وينتابنا شعور بالتفكير العميق في شخصيته وأخلاقه وكيف كان معنا وكنا معه؟ ونحاسب أنفسنا ولو بلغة صامتة عن تعاملنا معه ومدى تقصيرنا بحقه لو حدث ذلك.

يا ليت هذه التساؤلات نستطيع أن نجد لها وقتاً عندما كان هذا الإنسان حياً يُرزق بيننا، كي نعالج النقص والتقصير في علاقاتنا الاجتماعية مع أحبتنا وأهلنا ومعارفنا، كي لا نخسر مزيداً من الأبرياء الذين عاشوا بحزن ورحلوا بمأساة لو نحن سبّبنا لهم الجراح والآلام. ولكن طبيعة النفس البشرية تركن إلى الغوص في المجهول. المجهول في كل شيء، في المستقبل الغامض، في المدى البعيد، في الأفق الواسع الطويل، في الأشخاص الذين رحلوا عن الدنيا وتركوا لنا تاريخاً من الذكريات لهم، وسجلاً من العلاقات معهم.

هل الانتحار والإقدام على عالم الآخرة باحتساء كأس الموت -باختيار صاحبه- هو حكم الفناء الذي قرره الضحية على نفسه للهروب من ويلات الدنيا؟! ألم يعش كل منتحر حياته كلها وهو يتجنب نكبات الموت ويخاف من الهلاك والرحيل؟ فما الذي أوصله إلى احتزام أمره واستعجال قدره وإقرار الرحيل لولا أنه وصل إلى أقسى حالات الضعف وعدم القدرة على التحمل والصبر؟

ترحَّمت على صاحبنا الذي انتحر عندما قطعت الطريق على الجسر المعلق، وتذكرت حادثته متسائلاً: ألم يجد شيئاً جميلاً في حياته يُعينه على تحمل أعباء دنياه؟ ألم تر عيناه شيئاً من النور والإشراق على الرغم من كل الظلمات التي أحاطت به؟ حقاً، كل إنسان في حياتنا عندما يموت تموت أسراره معه، فلا ندري كم من الآلام والأحزان والعذابات والجراحات في قلوب وأفئدة الكثير من الناس بيننا. وهل يا ترى منحنا أحبتنا الكثير من الحب والعطاء والوقت للاهتمام بهم؟ هل وهبنا أنفسنا بصدق لأسرنا وأبنائنا وأهلنا؟ أم أننا نعيش في لهو وأنانية وأطماع ذاتية تبعدنا عنهم وتزيد من الهوة النفسية بيننا وبينهم؟ وعندها يستفحل الجفاء الخطير في حياتنا الأسرية حتى يكاد يقتل كل ما تبقى من مظهر جميل في علاقاتنا الأسرية والاجتماعية.

لا تكن سبباً في شقاء أحد من أهلك أو أحبتك أو أصدقائك أو معارفك. أحمل في داخل فؤادك بستاناً من الحب لكل من عرفت من الناس، ولا تبخل بالابتسامة الطيبة والكلام الجميل والدعاء الصادق، فبذلك ستكون سبباً -بإذن الله- في إسعاد من حولك من حيث لا تشعر. ولا تجرح بكلمة قاسية أحداً أبداً، لأن أثرها سيبقى محفوراً في نفسه مهما طال الزمان ومضى، ومن قصرت في حقه من أبنائك أو أخوتك فراجع نفسك معه كي لا يزداد الشقاق وتتحول حياتك إلى شقاء وعناء ثم ندم. فصناعة النجاح والسعادة والتفوق في الحياة تبدأ من نجاحاتنا الأسرية وعلاقاتنا الطيبة الكريمة فيما بيننا.

أتمنى في حياتي أن أمنح شيئاً من وقتي ما استطعت لذلك سبيلاً لكل من رأيته حزيناً مكسوراً مكتئباً لا يجد من يشكو إليه همه إلا الله سبحانه، كي أستمع إليه وأتحدث معه، فهؤلاء يحتاجون إلى من يتحدثون معهم. فلكم أنقذت كلمة طيبة أنفساً متعبة! ولكن الله تعالى هو أملنا ورجاؤنا في كل أمر ولن يضيع عباده وهو معهم أينما كانوا.