مع الأسف أننا معاشر الآباء والأمهات صببنا جُلّ اهتمامنا في غذاء وكساء الأبناء حتى تسببنا لهم بتخمة في البدن والعقل، وأغفلنا جانب اللسان والبيان، وتناسينا تنوير عقولهم بكل وسائل التنوير، وكذلك أغفلنا تغذية الوجدان بالحب والتفاهم. ومما لا شك فيه أن منطق الإنسان من أهم ما يملك من كنوز خلاف صفاء عقيدته وقوة إيمانه بربه وأخلاقه الرفيعة، وكذلك عقله الموهوب له من الله؛ فالمهم كيف نستثمر هذا العقل ونهذبه وننميه.
وقد أُجريت دراسة في إحدى الدول المتقدمة عن أخوف ما يخاف الإنسان، ونزل الباحثون في الشارع يسألون الناس باختلاف مشاربهم، فجاءت الإجابات متنوعة؛ فمنهم من قال الموت، ومنهم الذي قال المرض، ومنهم من قال المرتفعات، ومنهم من قال المنخفضات، ومنهم من قال الحشرات، ومنهم من قال الوحوش المفترسة.. ولكن الكفة رجحت لمن قال إنني أخاف من الخطاب ومواجهة الآخرين والفصاحة في الحديث.
عجباً، ألهذه الدرجة يخاف الناس من التخاطب وقوة البيان والحجة؟ لم تخفهم الوحوش الضارية ولا الحشرات السامة القاتلة ولا الموت ولا المرض.. ماذا جرى؟
ومن هنا، ومن خلال ما نلمسه من إخفاقات في حال طلابنا بمادة التعبير، وكذلك فئات أخرى من أطياف المجتمع، نضع أيدينا فوق رؤوسنا متحيرين، ونأسف أشد الأسف، وندعو الله لعله يصلح الحال.
إن حسن الخطاب مسؤولية الآباء أولاً وأخيراً ثم المعلمين ثانياً؛ ليحصل الأبناء على فرصة التعبير السليم من غير تباطؤ أو تلكؤ أو تلعثم، ويكون عندهم فصاحة وحصافة وحسن فهم وحوار عقلاني منطقي متأدبين بآداب الحوار؛ ليكون التواصل العقلاني بعيداً عن الهمجية والشلل الفكري واللفظي.
والحقيقة أنني أرجع ذلك التراجع في البيان لأسباب، أهمها ثقافة «اسكت يا ولد لا تتكلم، أنت ما صرت رجلاً بعد، لا تجلس في مجالس الرجال واكتف بصب القهوة واخرس»!!
يا لطيف، لقد جنى الآباء على أبنائهم وهم يشعرون!!
ومن الأسباب أيضاً عدم غرس حب القراءة منذ الصغر في قلوب الأبناء، خاصة قراءة القصص التي تناسب الأطفال، وأنا شخصياً كتبت لوزارة المعارف آنذاك بإيجاد منهج رسمي للتعبير وجعلها مادة بالغة في الأهمية؛ لأن الطلاب حسب خبرتي الوظيفية يحتقرونها!!
والأدهى حينما يكون الأب والأم أميَّيْن؛ فينعكس ذلك على الأبناء؛ ما يجعل الأبناء أقل فاعلية ومشاركة في المجتمع. والأسباب متعددة، لا يسعها المقام.
كفاك أيها الأب وأيتها الأم، جعلتما ابنكما وبنتكما مجرد دمية جامدة خارسة اللسان قليلة البيان، ولسان حال الولد والبنت يقول أرجوك يا أبي أرجوك يا أمي قتلتما فينا اللسان فأصابه العجز، حرام عليكما أنتما راعيان، استرعاكما الله، ألا تتأملان المثل القائل «المرء نصفان، نصف قلبه ونصف لسانه»؟ جعلتما قلبي ملتهباً.
وفي الختام، فإن هذا الظمأ البياني يؤدي إلى الخواء العاطفي والأمراض النفسية، وهذا ظمأ يهدِّد الأبناء بالموت الفكري والعجز عن التواصل مع الآخرين وانعدام الثقة بالنفس والانزواء على النفس والكبت والعيش في مدار ضيق.. وسامحوني أيها الآباء.