رحم الله ذلك العهد المليح المريح؛ ذلك الزمن الواسع الفسيح الذي كان يكتب فيه الكاتب مقالاته وخواطره وأفكاره متدفقا سلسا من غير حسيب من الوورد أو رقيب من رئيس تحرير يعد عليه أنفاسه وكلماته ويرسم له حدود غرفته الصغيرة؛ فلو رفع رأسه اصطدم بالسقف، ولو مد قدمه تعدى على حدود الغير!
ولى زمن كانت المقالات فيه تختال بالمزينات والمترادفات والعود على البدء، كان الكاتب يتباهى فيه بطول نفسه، وثراء لفظه، وقدرته على التصوير والإجلاء، لا في أقصر لفظ وأوجزه وأفقره وأقله وأبخله كما هو شأن الكتابة الآن؛ لا، بل بأسخى لفظ، وأثرى عبارة، وأكثر ترادف، وأطول امتداد لا يشعر فيه الكاتب برهق ولا إقتار ولا إعسار!
ولى زمن المقال الطويل الذي كان يتبختر فيه طه حسين بالتكرار والعود على البدء، أو يتباهى فيه مصطفى المنفلوطي بسلاسة وسهولة أسلوبه، أو يتحالى فيه محمد حسن الزيات بتموسق عباراته وتوازنها، أو يتجمل فيه إبراهيم المازني بتصاويره البليغة وسخريته المرة من نفسه إلى أن يشبع ذاته بجلد ذاته، أو مصطفى الرافعي بتدقيقه في انتقاء ألفاظه وشعوره بحرية ليس لها حدود ولا قيود في تركيب وتنميق الألفاظ دون أن يحده حد أو يعيقه قيد!
ولى ذلك الزمن الذي كان الوقت فيه هو الوقت الذي خلقه الله وكونه منذ بدء الأزل؛ أربعا وعشرين ساعة بالتمام والكمال؛ لا أربعا وعشرين ساعة تمر مر سحاب الصيف، محتشدة مليئة متراكمة بطبقات بعضها فوق بعض، ترعد وتبرق وتعد بكثير من الأمطار والوعود ثم لا تجد بين يديك من هذا الزحام في الوقت وضيق النفس والركض واللهاث غير ما يشبه قبض الريح، وكأنك تريد أن تمسك الماء ملاحقا قطراته صباحا ثم ظهرا ثم مساء وليلا دون أن تقبض منه ما يملأ كفك!
إنه الزمن الجديد الذي لم يعد أربعا وعشرين، وإن كان الرقم هو الرقم، ولكن مضمون ساعاته المحتشدة المتوترة المضغوطة غير فضاء ذلك اليوم القديم الذي كان وأصبح تأريخا جميلا تنفسه وعاشه الآباء والأجداد، واحترفه الكتاب والمفكرون واستغلوا أيامه ولياليه في كتابة مسترخية مريحة مرتاحة وهم يعلمون أن قراءهم سيلتهمون بشوق ما يقرؤون، وأن لا حدود ولا قيود على ما تخطه أناملهم -وليس الكيبورد- فانطلقوا كما شاؤوا وأبدعوا كما هي سجاياهم؛ فكان بين يدينا هذا الأدب المقالي الثر الجميل.
أكتب وأريد أن أضرب أمثلة ومناوشات كانت الشاهد الحق المبين على ثراء زمن ولى وراح، وأصبح تقليده اليوم من غير المحبب ولا المباح!
أكتب لتويتر الآن بعد أن طوعت نفسي، وقسرتها قسرا، وعذبتها عذابا لم يذقه أحد من العالمين؛ لكي لا أزيد حرفا لا يجيزه الرقيب الآلي المجهول! وما أشده من عذاب وعقاب على النفس، ما أثقله من قيد ورباط لا أستطيع فكاكه وأنا ذلك الذي عاش شطرا من زمن الحرية في التدفق والانثيال، لقد منحني تويتر حرية التعبير عن الأفكار وسلب مني حرية الانطلاق، وكأنه يقول مثلما يقول رئيس التحرير لي: يا محمد أنت في زمن جديد، لا فرصة فيه لتفلسف ولا تزيد ولا إسهاب، أكتب فكرتك بأوجز عبارة وأقل كلمات، الناس لا وقت لديها إن كان لديك فضلة من وقت أيها المنسل من عصور قديمة ولت!
ما أقساها من عقوبة، وما آلمه من تأنيب ضمير ترتعش بسببه أصابعي وهي تضرب الكيبورد بعنف كما تجلدني المساحة التي ضاقت بي ولا تريد أن تتمدد سطرا أو سطرين، آه! نسيت نفسي، ولم أستطع التوقف عند 500 كلمة التي منحت إياها بعد جدال طويل، لقد وقعت في المحظور وزدت 100 كلمة أتعهد أن أخصمها من المقال القادم عقوبة على التعدي على قوانين النشر وحدوده، ولأنني الآن أمارس عن قصد وترصد الإسهاب المنهي عنه والمترادفات التي لم يعد لها مكان محاولا الانفلات والتعدي على حقوق الغير من الجيران!
moh.alowain@gmail.com