في نهاية الأسبوع الماضي سعدت كثيراً برؤية الأمير نايف وهو في صحة جيدة يستقبل زوَّاره في مقر إقامته الاستشفائي في جنيف، ويتحدث إليهم مبتسماً، ووقر في قلبي أن عودته إلى الوطن ستكون قريباً.
هذه السعادة أفسدها اتصال هاتفي تلقيته منتصف ظهر يوم الأحد بقليل من المحطة الفرنسية 24 التلفزيونية وأنا منهمك في ترتيب أوراق أريد أخذها معي إلى مقر إقامتي الصيفية في قريتي في منطقة عسير، صدمني ذلك الاتصال الذي حمل إلي عبر إحدى مذيعات المحطة قولها وبشكل مباشر:
أولاً، أحسن الله عزاءكم، ثم ما هو تعليقكم على وفاة الأمير نايف؟ هزني ذلك الخبر منذ بداية تقديم العزاء، ثم ذكر اسم الفقيد.
لم أتمالك أعصابي وقلت: ماذا تقولين يا سيدتي؟ يبدو أنك غلطانة أو واهمة، الأمير نايف بخير، لقد شاهدته عبر التلفزيون منذ يومَيْن وهو بخير. قالت: إن هذا الخبر يا سيدي مؤكد. قلت: امنحيني برهة من الوقت لكي أتأكد. وأدرت مؤشر التلفزيون على المحطة السعودية، وكانت الإخبارية التي كان مذيعها لم يكمل قراءة الخبر الوارد إليها من الديوان الملكي. قالت السيدة - ولا زالت على الخط - بعد أن توارى صوتي قليلاً لسماعها: ما تعليقك على الخبر؟ قلت: امنحيني دقائق إذا سمحتِ، لا أستطيع في هذه اللحظة أن أستجمع شيئاً من أفكاري. وكعادة محطات الأخبار تحرص على أن تكون سباقة في الحصول على تعليق على الأخبار المهمة. قالت: أرجوك، أنا بحاجة إلى سماع تعليقك. لم يكن ذلك اليوم سعيداً، تذكرت في لحظتها لماذا نحن على موعد مع الأحزان؟ لم تمضِ ثمانية أشهر على وفاة الأمير سلطان - رحمه الله - ولم تلتئم جراح الحزن بعد، ولم تغب عن ناظري دمعة ذرفتها عين عبدالله بن عبدالعزيز حين كان يؤدي الصلاة على جثمان الأمير سلطان، ولم يغب عن ناظري كل علامات الحزن التي تجسَّدت على وجه سلمان بن عبدالعزيز وما كان يعصر قلبه من حزن على شقيقه الذي لازمه طوال حياته وحتى اللحظات الأخيرة منها.
إن حزن الكبار يؤلمني، وفقدهم يشعرني بالقلق بل بالخوف، لقد توالى علينا وفي فترة قصيرة فقدان العديد من الكبار الذين أحببناهم، وعشنا سنوات جميلة من حياتنا ونحن نسعد ونحس بالأمان بوجودهم، وفي مقدمة هؤلاء الكبار سلطان، ثم ها هو نايف يزيد فراقه جرحاً على جرح لم يلتئم.
من يعرف نايف عن قُرب فإنه حتماً سيحبه ويحترمه ويجله، فيه من الصفات ما يجعل الناس تحبه وتجله وتحترمه، وجمع بين سمات القيادة وتواضع الكبار وحزم القادة وانبساط وجوه الكرماء وعمق المفكر وصدق المؤمنين، إنه كان كل هذا وأكثر.
لم أتشرف بمعرفة الأمير نايف عن قُرب إلا بعد أن تعرضت عاصمة بلادنا لأول عمل إرهابي هزَّها وأقض مضجع أهلها، واهتزت معه مشاعر كل وطني وأنا أحدهم؛ فكتبت مقالة عن هذا الحادث الجلل الذي تعرضت له عاصمة الأمن والأمان لأول مرة في تاريخها الحديث.
عرفت فيما بعد أن الأمير نايف قارئ متميز ومتابع لما يُكتب في الصحف السعودية وغيرها عن السعودية، قرأ المقالة فنالت استحسانه رغم أنه كان في وسط الإشراف على استعدادات الحج لذلك العام في مدينة مكة، واتصل هو بنفسه مباشرة على منزلي بالسكن الجامعي التابع لجامعة الملك سعود بالرياض، ورد عليه ابني، وسأل عني فأجابه الابن بعدم وجودي في المنزل، فقال له: قل: نايف اتصل. أخبرني ابني، وكلٌّ لم يكن يعرف من هو نايف الذي اتصل، وأنا كذلك. في اليوم الثاني عاود الاتصال ورد عليه ابني، ولم أكن في المنزل، وقال: قل له نايف. أخبرني ابني عند عودتي، ولم يخطر على بالي أن الأمير نايف هو الذي أجرى اتصالين في يومين متتاليين، وكان في تلك الفترة يوجد بعض المزعجين بالتلفونات. وبعد ظُهر اليوم الثالث اتصل مكتب سموه بقسم التاريخ في الجامعة، وترك رسالة بأن مكتب الأمير نايف اتصل يسأل عنك.
عدتُ إلى منزلي واتصل بي مدير مكتب سمو الأمير فرددت عليه، وقال: سمو الأمير حاول للمرة الثالثة الاتصال بك فلماذا لم ترد عليه؟ قلت له: يا سيدي لقد كنت مستبعداً جداً أن يتصل بي نايف وهو المشغول بأعمال الحج وأتابع ذلك من خلال شاشة التلفزيون، ومن أنا لكي يجد نايف وقتاً للاتصال بي. أبلغ مدير المكتب الأمير بأنني لم أكن أتوقع أبداً أن يتصل بي، وبعدها بقليل كان الأمير على الخط، وكان أول ما قال: لماذا تستبعد اتصالي بك، أنا ليس بيني وبين أي مواطن قيود أو حواجز، وأريد ألا تنقطع قنوات التواصل بيني وبينهم.
ثم أثنى - رحمه الله - على تلك المقالة، وقال: نحن نريد أن نبيّن لمواطننا وللعالم الحقائق لما نحن عليه، والواجب الذي فرضه علينا الدين والمسؤولية أن نقوم به، نحن لا نريد أن نقول للناس إلا حقيقة ما نحن عليه.
لقد كان الأمير يقوِّم تلك المقالة برؤية نقدية واقعية، ويقول: نحن لا نريد أن نبالغ في مدح أنفسنا، نحن نريد أن نقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. وختم حديثه - رحمه الله- بأن قال: وهذا ما جعلني أهتم كثيراً بما جاء في هذه المقالة، وأحببت أن أشكرك، وأتمنى منك الاستمرار، وألا تظن أن بيني وبينك وبين أي مواطن حواجز أو حدوداً.
هكذا كان أول اتصال من خلال الهاتف بيني وبين سموه - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته -، لم ألتقِ بسموه بشكل مباشر إلا بعد نحو تسعة أشهر من تلك المكالمة الهاتفية، وكان ذلك في منزل أحد الأصدقاء الذي استضاف سمو الأمير على مائدة عشاء حضرها عدد كبير من المثقفين وأساتذة الجامعة وكتّاب الأعمدة الصحفية؛ حيث كان سمو الأمير - رحمه الله - يحب أن يجتمع بأصحاب الرأي والكتّاب.
وتجد هذه النخب الفرصة في حوار مع رجل دولة متميز يعرف قيمة أصحاب الرأي، ويفتح معهم أبواب الحوار حول العديد من القضايا. لقد كان - رحمه الله - محاوراً رائعاً، ومستمعاً أكثر روعة، ومثقفاً يقارع الحجة بالحجة، لكن بهدوء وسكينة وسعة بال، شغافاً فيما يطرحه من آراء، صادقاً في كلامه، موضحاً وجهة نظره، مستمعاً جيداً إلى وجهات نظر الآخرين، مؤمناً بحق الآخرين في إبداء آرائهم، ولكن دقيقاً جداً في تقصي قول الحقيقة، لا يغضب من الكتّاب الذين يقولون الحقيقة ويتوخون الدقة في صحة مصادرها، ولا يريد مصادرة رأي أحد طالما قال الحقيقة.
أذكر أن أحد الكتّاب التربويين كان له رأي في بعض ما تشتمل عليه بعض كتب المناهج التعليمية، وأن ما تتضمنه فوق مقدرة الطلاب الصغار لاستيعابه، وقامت على هذا الكاتب ضجة من قِبل من لهم وجهة نظر مغايرة، ووصل الأمر إلى سمو الأمير نايف، فقال للمعترضين: أين يكتب هذا الكاتب وجهة نظره؟ قالوا في الجريدة الفلانية، وسموا الجريدة. قال لهم: ردوا عليه بوجهة نظركم في الجريدة نفسها. ربما كانت حجة ذلك الكاتب أكثر إقناعاً من حجتهم، فما كان منهم إلا التأليب على ذلك الكاتب.
هكذا كان نايف - رحمه الله - واضحاً في كل ما يتعامل معه لما فيه مصلحة وأمن واستقرار هذا الوطن.
في محاربته للإرهاب كان حازماً واضحاً في موقفه من هذه الآفة، وكان يعطي مساحة كبيرة للتسامح مع من كان مغرَّراً به، خاصة من الشباب الذين كانوا فعلاً ضحية لأصحاب الآراء المضللة.
إن الحديث عن علاقة الأمير نايف بالكتّاب والصحفيين وأصحاب الرأي يجب أن يسرد ويكتب؛ لذا أشير في هذا السياق إلى حديث ماتع، والأحاديث جميعها ماتعة مع سمو الأمير نايف رحمه الله، حينما قابله أعضاء مجلس إدارة جريدة الوطن بعد صدور الموافقة على تأسيسها، وأنا أحدهم، بأن قصّ لنا قصة اهتمامه البالغ وحرصه الدائم على قراءة الصحف السعودية حتى أيام إجازاته ووجوده في الخارج، وأحد أسباب ذلك هو الاطلاع على ما يكتبه كتّاب الصحف؛ لكي يكون على بينة من ذلك بنفسه منعاً لقراءة خاطئة من بعض المراقبين أو تقارير المتطوعين الذين قد يكون لهم فَهم مختلف فيلحقون الإساءة بكاتب بناء على رؤية أو قراءة خاطئة؛ فلم يكن الأمير نايف يخشى مما تكتبه الصحافة، بل كان يريد توخي الحقيقة فيما يكتبه أي كاتب.
إن الحديث عن نايف الأمير والإنسان والمسؤول والمواطن ذو شجون، ولن يستطيع المرء أن يوفيه حقه.
رحم الله الأمير نايف، وأسكنه فسيح جناته، وسيبقى حياً في قلوبنا؛ لأن كل مواطن كان يسكن في قلبه.