نعلم يقيناً أن التحديات التي يواجهها الخليج العربي كثيرة ومتنوعة رغم أن هناك من أبنائه من يبذلون جهوداً كبيرة لمجابهتها والتخفيف من آثارها المحتملة، ومن أبرز تلك التحديات المقلقة مظاهر أو بوادر ذوبان الهوية أو انصهارها بهويات أخرى بسبب مزاحمة العنصر البشري الوافد بكثرة ولا سيما ممن هم قادمون من شرق آسيا عموماً، والهند والبنقال والباكستان على وجه التحديد.
والأخطر في هذا الأمر ما يذكره بعض الباحثين من أن التراث الإنساني في هذه المنطقة هو الذي يواجه المعضلة، إذ لم يعد هناك عناية تامة بالتراث من خلال توثيقه وحفظه، والسعي إلى معرفة المعوقات وحلها ودعم جهود الرعاة المخلصين لهذا النوع الإنساني الفريد، أضف إلى هذه المعوقات ما تعيشه المجتمعات الخليجية من طفرة مادية وهجمة استهلاكية ضارية.
فرغم أن في مجتمعنا الخليجي مَنْ يخوض التحدي على نحو موقعة أو معركة “قوقل” وما قبلها حيث يسعى هؤلاء المختصون بالتراث والآثار والثقافة والمعرفة إلى حمايته من خلال خلق توازن إنساني مفعم بحب الخليج وأرضه وأهله، وتقوية الذاكرة الشعبية بكل ما له علاقة بالموروث الجمالي العربي الذي تكوّنه إرهاصات البادية وحياة البحر والقرى ومدن السواحل البسيطة.
فقد أشار أحد الباحثين من دولة الإمارات العربية المتحدة ومن خلال أحد الحوارات التلفزيونية قبل أيام إلى أن هناك أمراً غاية في الدهشة والغرابة يتعلق فيما يعرض من تراث وآثار خليجية في المزادات العربية والعالمية يتمثّل في أن مِن أبرز مَن يستحوذ على هذا التراث هم من الأجانب بعضهم على الضفة الأخرى من الخليج وكذلك أثرياء الهند، وبعضهم من أعداء الأمة العربية والإسلامية كالصهاينة مما يثير الدهشة والاستغراب عن مآل تراثنا إلى هؤلاء؟! رغم محاولات تجار الخليج وأثريائه احتواء الموقف وإحباط محاولات ترسيات هذه المزادات على أناس مشبوهين لا علاقة لهم بالخليج وتراثه وثقافته.
هذه الصرخة المدوية لم يصل صداها حتى الآن إلى ذات المواطن الخليجي، لأن الجميع يتظاهرون بالدّعة والسكينة، ويفرطون بالمطالبة بعدم الظن بمن حولهم، بل عُدَّ الأمر مجرد حسابات ماديات وحسب، فيما البعض من أهل الخليج وهم من يحملون وعي المرحلة وأسسها وقواعد لعبتها يقفون على الجانب الآخر بحدسهم وتصورهم وبما يحملونه من وجل وخوف على مصيرنا من هؤلاء الذين لا شك أنهم يبيّتون للخليج وأهله أموراً قد تكون مؤذية.. فمن باب أولى أن لا يغيب عنا أي احتمال أو تصور قد يكون في ظاهره التعاون التجاري وتبادُّل المصالح وفي باطنه سيناريو قاتم للمستقبل - لا سامح الله - فحجم شراء التراث والآثار والتحف والمقتنيات الخليجية كبير جداً، فيجب التنبه إلى أن من يقتنيه ربما ليس حباً فيه وبأهله، إنما هو امتلاك يثير الاستغراب، فما يعانيه التراث الفلسطيني منذ عقود خير دليل على أن هناك من يبيّت نية الاستحواذ والهيمنة لأهداف مضمرة قد لا نراها في الواقع المنظور.
فالرهان على الهوية المحلية للخليج العربي مطلب مُلح وتوجُّه وطني مهم يجدر بالجميع التعامل معه بصدق وموضوعية، لكي لا تذوب هذه القيم الإنسانية البسيطة التي تمثّل شريان الحياة حتى وإن تسامقت البنايات وكثرت الجسور وازدهرت قشور الحضارة.. فلا شيء أروع من ماضٍ يخلد ذكرى الأهل الطيبين، ولا أجمل من جيل يحافظ على هوية الوطن بقدر ما يستطيع.
hrbda2000@hotmail.com