تذكرت (أبا الطيب) حين نُعي (غسان تويني 1926 - 2012 م). وما غاب (أبو الطيب) عن ذاكرتي ساعة من نهار، ولكن التداعيات تعيده من زاويته المناسبة للحدث المثير.
وما ضاق أحد بالمصائب ضيق أبي الطيب وما جسد أحد صراعه معها مثلما جسده. وغسان الذي أثخنته الجراح، تحداها بالكلمة، وواجهها بالإصرار.
لقد غالبت المصائبُ أبا الطيب، ولم تغلبه، ولمَّا يني في مجادلتها ومجالدتها ومساءلتها باستغراب:-
“أبنت الدهر عندي كلّ بنتٍ
فكيف خلصت أنت من الزحام”
كما هوّن من جراحها:-
“جَرَحْت مجرَّحاً لم يبق فيه
مكان للسيوف وللسهام”
ومع مناصبة الحياة له، لم يتردد في استسقائها:-
“أظمتْني الدنيا فلما جئتُها
مستسقياً مطَرَتْ علي مصائبا”
وغسان وإن وهن عظمه فإنه لم يهن، بل ظل ممتشقاً قلمه يذود عن وطنه حراب التآمرات المسمومة. لقد مات شامخاً بتضحياته، صامداً بتحدياته، وموته مرتقب من حيث الزمن، غريب من حيث الكيفية، إذ المتوقع أن يُغتال كما اغتيل سائر المناوئين للتدخلات السورية في الشأن اللبناني.
لقد أمضى ثمانية عقود ونيفاً، أمضّته، وأضوت جسمه.
وكيف لا يضوى؟ وهو الوطني الحر، الرافض لكل تبعية تسلب وطنه السيادة، الراكض في فيافي المعالي، ولقد عجب المتنبي ممن يجد الطريق إليها، ثم لا يذر المطي بلا سنام.
والعقود الثمانية الطافحة بالفجائع، المليئة بالهزائم والانتصارات كافية. فالحياة صراع متواصل، إنها حلبة عنفٍ لا تهدأ، وكل من فيها مصارع مخاتل لخصمه:-
“كلما أنبت الزمان قناة
ركّب المرء للقناة سنانا”
ولقد وُصف الإنسان بأنه حيوان مقاتل. ولهذا ظل “تويني” محارباً منذ نعومة أظفاره، حتى بلغت به السلامة أرذل العمر.
وهو في معركته الممتدة على مدى ستة عقود، كان سلاحه القلم الجريء، وذخيرته البلاغة الأخاذة “وفي البدء كانت الكلمة”.
ولما كانت الحروب والكوارث والنكبات من سنن الله الكونية، فقد تلقاها الإنسان بجهله وظلمه وجبروته ووحشيته، حتى لا تخبو في مكان إلا لتنفجر في أمكنة أخرى، ثم تكون أشد بأساً وتنكيلا.
وموت غسان يذكرنا بالمآسي والنكبات، إذ كان هو آخر أفراد أسرته موتاً. ماتت زوجته وابنته وولده، ثم لحق بهم وحيده جبران إثر تفجير سيارة مفخخة، كما ضاع وطنه في ظل اللعب القذرة، ولما تُجْد مقاومته العنيفة وإصراره العنيد.
وبعد أن تجرع كل تلك المرارات، أقعدته الشيخوخة وأمضه اليأس، ليموت على فراشه وهو يردد:-
“لا نامت أعين الجبناء”
وطول السلامة وحده العلة التي لا دواء لها، ومن ثم قالت العرب من قبل:- “ما رأيت علة كطول سلامة”
وكم من عربي ضاق بما بعد الثمانين:-
“إن الثمانين - وبلغتها -?
أحوجت سمعي إلى ترجمان”
وهذا “لبيد” يتأوه، وكأنه مل الحياة وطولها:-
“ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد”
ولو تعقبنا أدبيات المعمرين ووصاياهم، لا سودت الحياة في وجوهنا، ولكن الأمل والنسيان يزيحان ضوائق التفكير بالمصائر، وهل من مصير أشد وقعاً من الموت؟ وهو وحده اليقين الذي لا ينجو منه مخلوق:- “كل نفس ذائقة الموت”
وما من أحد يدري ماذا يكسب في غده:- “وما تدري نفس ماذا تكسب غداً” واختفاء المصائر رحمة من الله، فلو عرف الإنسان ساعة موته، لما نامت له عين، ولا قر له قرار.
والموت بكل رهبته من أبعد الأشياء عن التفكير، وإذا استحضره الإنسان ساعة من نهار، ضاقت عليه الأرض بما رحبت. على أن الإنسان يتذكر النهاية كلما تقدمت به السن، وخارت عنده القوى.
وحياة “غسان” تفيض بالمصائب والنكبات والإحباطات، ولكنه ظل يغالبها حتى أثخنته وأقعدته على سريره الأبيض، يعاني الأمراض، ويتجرع مرارات الأحزان، وضوائق الوحدة، وسقوط قلمه، دون أن يحقق حرية وطنه من قذارة اللعب السياسية.
إن قضيته الكبرى “لبنان”، وعدوه اللدود تدخل الأقربين لزرع الطائفيات، وتفريق الكلمات، وفي كل جولة يسيخ قلمه في وحل المؤامرات التي تحاك لأجمل أرض عربية، وأقوى شعب عربي.
علمت بوفاته، وأنا أمتطي متن الريح بين القصيم والباحة، ومسافر اليوم طاعم كاسي، كما “الزبرقان بن بدر” الذي هجاه “الحطيئة” بقوله:- “وقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي”
فهو يضيق بالفراغ، ويمزق ساعاته بفلي الصحف.
أجمل تأبين، وأكثره إيغالاً في المبالغة، تأبين “جهاد الخازن” الذي استهله بقوله:- “آخر أمراء الصحافة اللبنانية، وأيوب العصر” ومن حق نصراني مثله، أن يوسعه تمجيداً، وإن تدارك اندفاعاته بشطر بيت:- “أي الرجال المهذب”. لست معترضاً على التأبين، فـ”غسان” أحد الرموز السياسية والوطنية الشرفاء.
لقد كان واحداً من عشرات الكتاب الذين أسهموا في تشكيل وعيي، ولفْت نظري، وإثارة فضولي، وشد انتباهي.
كانت “الأهرام” في مصر، وكان مقال رئيسها المثير “هيكل” “بصراحة”. وكانت “النهار” و”الحياة” و”غسان تويني” و”كامل مروة” في لبنان، وطائفة من كتاب هذه الصحف، هم الأكثر شداً للانتباه، واستقطاباً للشباب المتحمس أمثالي آنذاك. لقد كان جيلنا جيلاً مبهوراً بهذه الأصوات المدوية، مصغياً لهديرها، يتسلل إليها في جنح الظلام خشية الرقيب.
وكانت البلاد في حرب باردة وساخنة ضروس مع المد القومي والاشتراكي والثوري. وما كنا في شبابنا ندري عن مخاتلة اللعب السياسية، وما كنا نتوقع الكذب. فالكلمة التي يطلقها عمالقة الصحافة أمثال “هيكل” و”النشاشيبي” و”بهاء الدين” و”تويني” و”مروة” تبلغ مداها في أذهاننا، وقد نسهر جراها ونختصم. ومن نعم الله علينا أن ربط على أفئدتنا، وثبت أقدامنا، ولم يدب خدر البيان الساحر في أوصالنا، وإن أطربنا ذلك البيان الأخاذ، بل رقصنا، كما رقص بيت جرير:- “ألستم خير من ركب المطايا” “عبدالملك بن مروان”. وحين فُزِّع عن قلوبنا، وسقط النصيف، ولم تكن يد للاتقاء، عرفنا من بكى ممن تباكى، وأدركنا الكذبة الإعلامية الكبرى، التي أضلت أقواماً كثيرين.
وإن كان ثمة فضل نذكره ونشكره، فهو عائد برمته للملك الشهيد “فيصل بن عبدالعزيز” الذي ضبط البلاد بقوة ليس فيها عنف، فنجونا بهذا الحزم من مزالق الإعلام الثوري بكل إغراءاته واستدراجاته.
وإذ يقول الشعوبي الماجن:-
“عاج الشقي على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد”
فإنني أقول:- عاج المبهورون يبرزون إصرار “غسان” على النصر والتغلب على المصائب، وعجت أقرأ ما فعلته التدخلات السورية في الشؤون اللبنانية وشل سيادتها المشروعة، فلقد طاردت المناوئين لتدخلاتها وإحيائها للنعرات الطائفية، وكان “غسان” وابنه “جبران” من أكثر المعارضين، حتى لقد تلقى ابنه تهديدات ومساومات، ولكنه أصر، ولقي حتفه ليكون واحداً في سلسلة المغدور بهم.
والنظام السوري الذي يترنح أمام ضربات المقاومة، ستظل آثاره السيئة قائمة في لبنان، ماثلة لكل ذي عينين ولسان وشفتين، ولما يزل الحزب الطائفي حكومة داخل حكومة، يعبئ السلاح، ويزرع الضغائن، ويشل الحرية، ويدمر الاقتصاد، ويغري بالاختطاف والتفجير.
وفي كتابه “فلندفن الحقد والثأر” توجع يدمي القلوب، لقد تحدث عن الذين اغتيلوا وعن الذين نجوا، وأصابعُ الاتهام كلها تتجه صوب النظام السوري، حتى أصابته الطعنة النجلاء باغتيال وحيده، وأفضع تعبير في التأبين، حين تمنى لو قُتل ولده دون أن يتمزق جسمه، بحيث لم يجد فيه ما يمكن تقبيله، أو إلقاء النظرة الأخيرة عليه، إنها مأساة الأمة العربية، وليست مأساة لبنان وحده.
كان “غسان” داعية سلام، حتى في أحلك الظروف، ففي جنازة وحيده دعا إلى التعالي عن الأحقاد، والسعي إلى التسامح، ولكن النظام السوري الطائفي جر وطنه إلى الهاوية، وهو الآن يحاول جر المنطقة بأسرها إلى الجحيم مهيناً نفسه، عاقاً لعروبته, ممكِّناً للحقد المجوسي من الانتشار والاستشراء. لقد كتب “غسان” آلاف الافتتاحيات لجريدته “النهار” معبراً عن فلسفته في الحياة، وعن رؤيته السياسية، كما لملم أطراف رؤيته السياسية عن وطنه لبنان في كتابين: “اتركوا شعبي يعيش” و”حرب من أجل الآخرين” وفي كل كتاب تعبير صادق عن معاناة الشعب اللبناني الذي فقد ألقه ونصاعة حريته وحياته الدستورية المتجذرة، وفي آخر زيارة قمت بها للبنان، شاهدت آثار الدمار والخوف والترقب الباديين على وجوه الشعب المقهور.
ولبنان الذي فقد رجالاته الأوفياء، أنجب آخرين، يقولون ما يقول سلفهم ويفعلون فوق فعلهم. وإذا اشتدت الأزمات فإنها مؤذنة بالانفراج.