الإعلام بأدواته وقنواته وتقنياته الحديثة، عنصر أساس وفاعل في نشر المعرفة الإنسانية، عبر الخبر، والتقرير، والتحقيق، والحوار، والمناقشة، والتحليل، والاتصال الجماهيري، وعبر طرح مزيج متنوع من الآراء والأفكار، والمواقف والأطروحات، التي تعكس بطبيعة الحال التناقضات الثقافية الإنسانية النابعة من التباين في التوجهات الفكرية والمذهبية.
من المؤشرات الإيجابية للإعلام السعودي خلال السنوات القليلة الماضية زيادة اهتمامه بقضايا المجتمع ومشكلاته وهمومه، وإبراز مَواطن الخلل، أو مكامن الضعف، في أداء أجهزة الدولة، وعموم منظومة المؤسسات الخدمية في المجتمع، والتي تحول دون تحسين نوعية الخدمة، ورفع كفاءة الأداء. بما يتيح بالتالي الفرصة للمسؤولين والقائمين على إدارة هذه الأجهزة والمؤسسات، لمعالجة هذه الثغرات والإشكالات. والإعلام بذلك يمارس دوره الطبيعي في الرقابة والمتابعة، كمنبر مهم للرأي العام وقضايا المجتمع.
وهذه الرقابة والمتابعة الإعلامية يفترض أن تُبنى على مجموعة من الأسس والضوابط، حتى تكون أكثر قبولاً ومصداقية لدى الرأي العام، ومن ذلك الإلمام بدرجة كافية بطبيعة مَواطن الخلل مدار البحث، وتوفر البيانات والمعلومات المساندة، فضلاً عن التزام الموضوعية والشفافية في الطرح الإعلامي، حتى يمكن الوصول إلى نتائج إيجابية تخدم المصلحة العامة، وأهداف الإصلاح والتطوير والتحسين للمنتجات والخدمات المقدمة لعموم أفراد المجتمع. وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالنظر إلى طبيعة مهماتها ووظائفها، تُعد من أكثر الجهات الحكومية التي يَتعاطى الإعلام مع أنشطتها وممارساتها، بشكلٍ يكاد أن يتسم بصفة الاستدامة.
وهذا التعاطي بحكم الاستقراء والمتابعة يمكن النظر إلى أبعاده ومنطلقاته من زوايا ثلاث:
الزاوية الأولى: تَعاطٍ إيجابي، مبناه الإصلاح والتطوير، يغلب على مضامينه المصداقية والشفافية والموضوعية، يتعاطى إيجابياً مع مؤشرات الإنجاز، وبعين الرقيب المتابع يُسلِّط الضوء على القضايا والمشكلات، دون تضخيم أو تهويل أو تعميم. وبما يُشكِّل كما قال معالي الرئيس العام: إضاءة لطريق الهيئة، يتيح لمسؤوليها الاستفادة من معطياته لتحسين مستويات الأداء والإنتاجية، أو معالجة بعض السلوكيات والاجتهادات الخاطئة.
الزاوية الثانية: تَعاطٍ سلبي مَبناه اللبس والريبة والشك، وأفكار ومفاهيم خاطئة، مُؤدَّاه نتائج غير موضوعية، بلْه وكيلاً من التهم والادعاءات دون تَروٍّ أو تمحيص أو مزيد إطلاع.
الزاوية الثالثة: تَعاطٍ لا يستند إلى مبررات موضوعية، أو حالات من الالتباس، وإنما دافِعُه الأساس قناعات مسبقة ترفض وجود جهاز الهيئة أصلاً. وأساليب هذا التعاطي: التدليس والكذب والبغض والمحاربة.
هذا المزيج المتنوع في الطرح الإعلامي السعودي، يدفع بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبر كل النوافذ الإعلامية المتاحة -إدراكاً منها بأهمية الشراكة مع الإعلام لبناء مجتمعٍ أفضل- إلى تعزيز عناصر الطرح الإعلامي الإيجابي لأدوارها ووظائفها المجتمعية، وإبراز أهدافها وتطلعاتها الراهنة والمستهدفة، والتعرف أكثر على الصور النمطية السلبية العالقة لدى بعض النُّخب الفكرية والإعلامية، عن الهيئة، والعمل قُدُماً على إزالتها، وتبيان الحقائق والوقائع بمصداقية وشفافية، بما يخدم في المحصلة النهائية رسالةَ الحِسْبة، ونشر فضائلها، داخل بيئة وبنية المجتمع السعودي.
وأما مَن كان لديهم قناعات مسبقة ترفض وجود هذا الجهاز أصلاً فهم خارج نطاق مبادرات جهاز الهيئة.
وفق هذه المعطيات، لم يكن من المستغرب تماماً استجابة الهيئة ممثلةً برأس هرمها معالي الرئيس العام لدعوة سعادة رئيس تحرير صحيفة الجزيرة السعودية الأستاذ خالد بن حمد المالك للمشاركة في «ندوة قبة الجزيرة» إيماناً من معاليه بأهمية الإعلام في خدمة قضايا الأمة السعودية، وخيريتها، وفي أنَّ حمَلة الأقلام هم في حقيقة الأمر من الآمرين بالمعروف، من خلال أدوارهم المهمة في تبيان أوجه القصور والخلل في أداء قطاعات الدولة والمؤسسات المجتمعية على وجه العموم. مثل ما يُعد التواصل معهم كذلك ضرباً من ضروب الأمر بالمعروف. فهم شريكٌ رئيس في العمل العام المجتمعي، ويُفترض أن يكون عضُداً لجهاز الهيئة في إنجاز رسالته الخيرية النبيلة.
في هذه الندوة غير المسبوقة، وبحضور نخبة من الصحفيين والإعلاميين السعوديين والسعوديات، ناقش المجتمعون، في أجواءٍ إيجابية عالية العديد من القضايا والتساؤلات المطروحة على الساحة الإعلامية ومنابر الرأي العام، حول جهاز الهيئة، ونظامه، ونطاق مسؤولياته، وبرامجه، وإعادة هيكلته. وقد تمَّ نشر فعاليات هذه الندوة على مدار أربعة أعداد متتابعة.
في تقديري أنَّ الندوة كانت فرصة سانحة لمعالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وهو في شهوره الأولى على رأس هرم جهاز الهيئة- لمخاطبة الإعلام مباشرة، وإطلاعِهم -والرأيَ العام تبعاً لذلك- على أهدافه وتَطلُّعاته، لجهة العناية بتطوير الهيئة باعتبارها جهازاً شرعياً مستقلاً، يمارس أدواره ووظائفه المناطة به وفق نظامه ولائحته، وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، وأجهزة الدولة الأخرى في إطار منظومة متكاملة لخدمة المواطن وأمنه واستقراره، وإظهار شعيرة الحِسْبة على أفضل صورة ممكنة.
بالمقابل كانت الندوة فرصة سانحة كذلك لبعض النُّخب الفكرية والإعلامية لطرح هواجسها، وتساؤلاتها، حول طبيعة مهام وأدوار جهاز الهيئة، من خلال التواصل مباشرة مع رُبَّان السفينة. وأعتقد إلى حدٍ كبير نسبياً أنَّ معاليه قد نجح في تحقيق نسبة عالية من القبول والاستحسان لدى معظم المشاركين في الندوة، عبر إجاباته التي اتسمت بالموضوعية والشفافية العالية.
في قراءة لمحتوى الكلمة الافتتاحية لمعالي الرئيس العام، وإجاباته عن أسئلة وتساؤلات الإعلاميين المشاركين في الندوة، يمكن رصد العديد من العناصر الرئيسة، التي تتضح من خلالها رؤية معاليه الفكرية والإدارية لتطوير جهاز الهيئة.
من أبرز هذه العناصر:
أولا: أهمية الدعم والرعاية الكبيرة والمتجددة التي تقدمها الدولة لشعيرة الحِسْبة، والسعي إلى ترسيخ مبادئها داخل نسيج المجتمع السعودي، وتثبيتها ركناً أساسياً من أركان الدولة، وجزءاً لا يتجزأ من دستورها، تطبيقاً لمحتوى المادة الثالثة والعشرين من النظام الأساسي للحكم (تحمي الدولة عقيدة الإسلام، وتطبق شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله). ويؤكد خادم الحرمين الشريفين حفظه الله في كل مناسبة ومحفل، على أهمية شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأثرها العظيم في سلوك المجتمع المسلم، والحرص على دعم هذه الفريضة الإسلامية التي أولتها المملكة ما تستحق من العناية والرعاية، اعتزازاً برفع شعارها، ودعم رجالها، ورعاية أعمالها. ومن أحدث بنود هذا الدعم: إحداث (2400) وظيفة، واعتماد مائتي مليون ريال لاستكمال بناء مَقرَّات للهيئة في مختلف مناطق المملكة.
ثانياً: الأمر بالمعروف بـ(معروف) والنهي عن المنكر (بلا منكر): إستراتيجية عمل جهاز الهيئة، وقد تعهد معالي الرئيس العام على رعايتها، وإحداث تطبيقات ناجحة لها. ومن أبرز مفاعيلها: حُسن الظن والخُلق، والتعامل بالحكمة، وإقالة العثرات، وتغليب الستر. إضافة إلى تفعيل العمل المؤسسي، وتطبيق اللوائح، واعتماد سياسة الباب المفتوح، وتطبيق أساليب الإدارة الحديثة، ومعايير الجودة، واستقطاب الكفاءات الشابة ودعمها، ونشر ثقافة الشفافية والمساءلة وسرعة الإنجاز.
ثالثاً: انتهاج سياسة تدوير القيادات الإدارية والميدانية، وذلك من المقاصد الرئيسة في علم الإدارة، لتوفير بيئة مؤسسية وإدارية على قدر عالٍ من الكفاءة، والإنتاجية.
رابعاً: العناية بتطوير أداء العمل الميداني وتحسين مخرجاته، وقد عدَّها معالي الرئيس العام من أولوياته في هذه المرحلة. وهذه العناية تسير وفق خَطَّين متوازيين:
الأول: التوجيه بضرورة التثبُّت والتحرِّي الدقيق عند مباشرة المهمات الميدانية، وعدم تجاوز الحدود النظامية، وترك الاجتهاد غير المأذون به. والمراقبة على مدار الساعة للتأكد من عدم وجود تجاوزٍ أو نقصٍ ابتداءً من كتابة المحضر وانتهاءً بالإجراء الذي يتم حيال القضية. والهيئة بصدد إنهاء إجراءات إنشاء غرفة عمليات على غرار الأجهزة الأمنية لتسهيل الاتصال، ومتابعة الأداء.
الثاني: استحداث برامج مكثفة لرجال الميدان (دورات وورش عمل) والتركيز على التدريب النوعي المتخصص لرفع كفاءة الأداء، خاصّة في مجال: مهارات الضبط الجنائي، وبرامج تأهيل المستجدين، وتقنية المعلومات. ولتعزيز هذا التَّوجه سيتم العمل على توسيع نطاق التعاون مع الجامعات والمراكز الأكاديمية، بموجب مذكرات التفاهم والتعاون المنجزة، وكذلك تفعيل الاستفادة من كراسي الحِسْبة في الجامعات السعودية، إضافة إلى التواصل بشكلٍ أكبر وأوسع مع معاهد التدريب الحكومية المتخصصة.
خامساً: العناية بالبنية النظامية لجهاز الهيئة، فهي قيد التطوير، وسوف يتم قريباً بإذن الله إعادة إصدار نظامٍ جديد للهيئة بغية تنشيط التنظيم المؤسَّسِي، وتقنين وتوثيق الاختصاصات والصلاحيات، وكل الإجراءات الإدارية والتنظيمية لمباشرة مهماتها. بما يتماهى مع طبيعة المرحلة الراهنة، والتطور النوعي والمؤسسي والهيكلي الجاري في المملكة.
سادساً: إعادة النظر في أولويات برامج التوعية والتوجيه لجهة التركيز على طلاب المدارس في جميع مراحل التعليم العام، باعتبارهم الفئات الأولى بالاستهداف، بتوعيتهم وتبصيرهم بأمور دينهم، وغرس قِيم الخير والفضيلة والصلاح والانتماء والمواطَنة في حياتهم وسلوكياتهم. وفي المرحلة الثانية سوف تتجه البرامج التوعوية إلى طلاب الجامعات. وتخطط الهيئة لتوسيع نطاق المستهدفين لتشمل مدارس وجامعات البنات، من خلال نخبة منتقاة من النساء المعروفات بتوجِهُهنَّ الخيري والاحتسابي.
سابعاً: تغليب الستر واعتباره ركناً أساساً في الشريعة الإسلامية، ويشمل نطاق تطبيقاته القضايا التي لا تطال أضرارها الآخرين، إذ الستر عنصرٌ مهم لحفظ استقرار الحياة الأُسرية والعائلية والاجتماعية لمرتكبي هذه القضايا، وهم في الغالب مغرر بهم أو بهن. أما ما يتعلق بالقضايا التي يطال أضرارها الآخرين فلا مجال للستر على مرتكبيها، أو التنازل والتجاوز عنهم، ومن ذلك: جرائم الشعوذة، وتصنيع الخمور، وترويج المخدرات، والابتزاز، والاتجار بالبشر والدعارة، وقبل ذلك كله جرائم التعرض للذات الإلهية، أو مقام النبوة، أو السخرية من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
كلمة أخيرة:
الاحتساب أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رسالة ذات صبغة عمومية، وليست رسالة جهاز الهيئة فحسب، كما حرص معالي الرئيس العام على تجلية ذلك في ندوة قبة الجزيرة. فمؤسسات الدولة كلها ينبغي أن تمارس الاحتساب على أعمالها ومهماتها، بما يحفظ موارد البلاد، وحقوق العباد، ويُحقِّق الخيرية في الأمة بأزهى صورها.
من أحاديث النبوة: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ»
د. عبد المجيد بن محمد الجلاَّل