“الشعر مادة كاسدة في عالم النشر، ودور النشر تتلكأ في نشره”.
لعلي أوافق الأستاذ عبده وازن تماماً على جملته هذه الذي وردت في مقاله المعنون بـ “بيت الشعر” وقد تحدث فيها عن تاريخ المجلات العربية التي عنيت بالشعر منذ القدم حتى آخرها؛ تلك التي صدرت عن بيت الشعر في أبو ظبي ويشرف عليها الشاعر حبيب الصايغ، ويأمل وازن وآمل معه أن يكون الاستمرار سبيلها ولا تلاقي حتف سابقاتها من المجلات التي اختصت بالشعر.
الشعر ديوان العرب.. الشعر تأريخ وتراث أدبي.. لنا من المتنبي وأبي تمام وفحول الشعراء ميراث باقٍ فأين يا ترى ما ورثنا؟ وكيف هي ذائقتنا الشعرية؟ وأقصد الجيل الحديث؛ جيل التقنية المبرمج كآلة إلكترونية تشبه التي يحملها (الهاتف الجوال) والتي أشبهها بفضاء وهمي محدود وما فيها من برامج تحمله لعالم افتراضي سرعان ما يتلاشى عند إطفاء الجهاز أو نفاد البطارية.
كان أدهشني في حديثي مع المفكر السعودي إبراهيم البليهي حين قال إن العرب بالغوا في هذا اللون ويقصد الشعر، وأنهم لم يتعرضوا فيه للهم الإنساني والقضايا الاجتماعية كما نظراؤهم في الغرب، وحسب رأيه أن الشعر نتاج عاطفي وليس منجزا قائما على التحقق، الشعر إبداع تلقائي وليس إبداعا بحثيا، فالأمي قد يقول الشعر بإبداع على خلاف بقية الفنون التي تحتاج إلى تأهيل معرفي، وأنه أي البيليهي مبتهج بحضور الرواية كجنس أدبي جديد قد ينشغل الأدباء به في مناقشة الواقع الاجتماعي.
رأي المفكر البليهي قد يكون مفاجئا وقد يكون فيه عزاء أيضاً بأننا أمة ديوانها الشعر ويكتبه حتى أمّيّوها، لكن حسب رأيي لا يتذوقه إلا القلة وتخلو أو تكاد تخلو أمسياته من الحاضرين، فالشعر يحضر بلا جمهور والمجلات المتخصصة به سرعان ما تتوقف وتغلق أبوابها لأنه لا ممول لها، الدواوين الشعرية لا تستسيغها دور النشر ولا تروّج لنشرها لأن لديها من كتب الطبخ والفلك والروايات الجيدة والفاسدة ما يكفي لجذب القارئ وربما إفساد ذائقته أيضاً.
مجلات الشعر لطالما كانت هدايا الشعراء وأعياد القصيدة، لأن أنفاس أوراقها تحتفل بإبداعهم، بالقصيدة التي هي كنهر الحياة يمر في أوردتها، حتى أنها لتجمع اللوحة والصورة مع القصيدة في تآلف جميل حيث يحتضن اللون الكلمة فيسموان بإحساسنا لعالم فني تزهر فيه عواطفنا في زمن التقنية الجامدة وزمن القتل والحروب.
هنيئا للشعر بولادة مجلة جديدة هي أوعية له، وهنيئا لمعشر الشعراء بنافذة جديدة تطل منها قصائدهم، فما أشد الحاجة في عالمنا المأزوم بالخلافات والنزاعات للشعر وإحساس الكلمة التي ترتقي بالذائقة بعيدا عن الحروب الصغيرة التي قد تنشأ بين الشعراء حول قوالب القصيدة، لأن القصيدة الجيدة التي تقرع الوجدان ستثبت حضورها وتخلب لب قارئها.
من آخر البحر:
عمّان التي ألقتني في غياهب الجب
أيقظت حواسك كي تستدل علي
أخرجتني من البئر لأغرق في بحور الظمأ
النسيان لا يواري عورة حزني
ولا يمحو ذاكرة الحب
وحده الحب جمرة القلب
mysoonabubaker@yahoo.com