حرصتُ في مؤلفاتي القديمة كالفنون الصُّغرى أن تكون على منهج الكُنَّاشات، آذاني بعض مَن كانت لي معهم معارك صحفية وُدِّية بأنني من أصحاب (المستطرف).. أي حاطب ليل يجمع ما هو للتسلية!!.. وما كانت كتبي وبعض مقالاتي مُسْتطرفية ولا كُنَّاشات سمرٍ وتسلية مثل المحاضرات للراغب الأصفهاني، أو المستطرف من كل فن مستظرف.. وليست مسائل علمية نقلية مثل بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية على عظيم نفاسته، ولا خطرات كما في فنون أبي الوفاء علي ابن عقيل رحمهم الله تعالى وهي أيضاً نفيسة جداً؛ وإنما هي مسائل علمية مُحَقَّقة، وَعُضَلٌ فكرية مُدَقَّقة، وترطيبات جمالية: بالإيقاع الأدبي مُنَمَّقة، وباستبطان حقائق العلم والفكر متألِّقة.. وهي مسائل كتبتها على مدى عمري، ثم شدوتُ العلم منذ درَّبني الإمام ابن حزم رحمه الله على السبح في حقوله؛ فتَعلَّمت منه أنه لابد لطالب العلم من التخصُّصِ في أكثر من حقل، والتثقُّف في أكثر من حقل وَفْق أقصى ما يقدر عليه من إلمام بالمعارف.. وصفةُ التثقُّف غير التخصُّصي أن يثق بأنه إن رام تحقيق مسألة من المسائل بتفَرُّغٍ ومراجعةٍ ظَفُر بجرِّ ذيولها كما يظفر بذلك أهل التخصص، وتكون نظرتُه وتقويمه للكاتبين في ذلك الحقل نافذةً مدرِكةً مُميِّزة؛ فمثَلُهُ في ذلك الحقل الذي لم يَتَخَصَّصْ فيه وإنما تثقَّف فيه كمثل السابح غير الماهر يُشرف على السابحين المَهرة في ماء غزير؛ فيصيبُ حكمه المِحَكَّ في تقويم السابحين، وتقدير درجات سبحهم.. وهذه المسائل رهنتُها عقوداً من الزمن: إما متحرِّياً مُؤَلَّفاً من مؤلفاتي يجانسها فأدرجها فيه، وإما مأسوراً لمزيد وسوسةٍ علمية من أجل المزيد من التحقيق، وإما مُتَشَوِّفاً لإشباعها؛ لتكون رسالة مستقلة، وإما متَشوِّفاً لمصادر لم أحصل عليها بَعْدُ؛ فبهذا تكدستْ هذه المسائل عقوداً من الزمن في أضابيري؛ فرأيت في حجزها إهداراً لعلم حَرَّرته في نشاطي الذهني والصحي، كما رأيتُ أن تكون مؤلفاتي إن شاء الله مُسْتأنَفة بتحصيل وتحقيق جديد؛ حتى لا يجرُّني الحرص على هذه المسائل إلى إقحامها في مؤلفاتي باستطرادٍ مُسْتكرَه.. على أن نشرها وترتيبها يجعلها حاضرة أمامي للإفادة منها فيما يُستأنف، وأما الوسوسة العلمية حول زيادة تحقيقها وتنقيحها فقد قمتُ ببذل وسعي في ذلك بشرط أن لا تكون هذه الوسوسة حابسة لها في الأضابير مدة عقود أخرى.
قال أبوعبدالرحمن: ومن بعض الأهداف لنشر هذه المسائل -وهذا عن الكناشة، وعن الفنون العلمية- المطالب التالية:
1- أن ترسم منهجاً للتأصيل والتقعيد؛ فَتُلَبِّي حاجة ضرورية، وتقدِّم ابتكاراً يُعْتَدُّ به كما في فلسفة الاشتقاق لمعاني المفردة اللغوية.. والابتكار أنفس رتب التأليفات السبعة التي ذكرها الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى.
2- أن تحلَّ تعقيداً، وتجلو غموضاً، وتُذلِّل صعباً؛ ليكون من ثقافة السواد الأعظم.. وهذا وحده مطلب نفيس لو لم يوجد في عملي غيره، وما زاد عن هذا المطلب من تحقيق وتدقيق فهو مطلب آخر يُضفي على العمل صفة الاستيعاب العلمي واليقظة الفكرية.. وأكثر ما يكون ذلك في حواشي الأسلاف على المؤلفات وتحشياتهم على الحواشي، وتقريراتهم على حواشي الحواشي.. وأكثر ما يكون ذلك في القرون المتأخِّرة من القرن السابع الهجري من حيث غلبت الصنعة البلاغية والكلامية والفلسفية في تناول المباحث العلمية.. وإنك لتجد تحقيق مسألة نحوية تتَّصف بالعمق واللفتات النفيسة في حاشية فقهية أو حديثية، وتجد مسألة كلامية نفيسة في إحدى حواشي التفسير؛ فيكون إحضار هذا البحث النادر من غير مظنته، وإضافته إلى كتب التخصص مطلباً رفيعاً في نفسه؛ فهذا مطلب ثالث.
3- أن تكون المسألة -وإن لم تكن من جليلات المسائل- أخذت مني جهداً علمياً وفكرياً؛ فيجعل هذا الجهد للمسألة أهمية.
4- أن تكون المسألة خلافية لم يتفرغ كلَّ طالب علم لتمحيصها؛ لانشغاله بتمحيص مسائل أخرى؛ فأُتيحُ له فرصة الترجيح بما أحضرته له من أشتات المادة، وبما قام عليه ترجيحي من لمَّاحية حول: دلالة ما استدل به المختلفون نفياً أو إثباتاً، وتحرير محل النزاع.. إلى آخر النفائس العلمية والمنهجية التي يُحسم بها الخلاف أو يُضَيَّق مجاله.. وفي تنويع هذه المسائل بالتحقيق والتدقيق ما يُغري القارئ بالقراءة الواعية، وذلك من أهم مطامح من يريد نشر العلم وتسهيله والانتفاع ببركاته.. فكتاباتي بعد الكهولة فيها تسلية لي عن حسرات حول مؤلفات لي نُشرت ما وددتُ أنها طُبعتْ ألبتة؛ لما فيها من تسطيح، وهلامية، وخَنْخنة في الإيقاع الأدبي، وتمعلم.. والسر في ذلك أن ما طبعته كان من الجرأة التي تبعثها حيوية الشباب والاعتداد بالنفس، وقَّلةِ الوَرَعِ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما طبعتُ منها إلا قليلاً، وكتبي القادمة إن شاء الله ملغيةٌ كُتُباً لي كثيرة من أمثال: ساحة الملوك، وملاعبة الصيد الذي صدر عن النادي الأدبي بالمدينة المنورة عام 1413هـ، ونظرات لاهثة، والعقل اللغوي، والفنون الصغرى.. إلخ.. إلخ.. ومع التحقيق والتدقيق فلن أَحرم منهجي من إيراد بعض النوادر المفيدة على غير طريقة الحشْد غير المسؤول في مثل كتاب المستطرف من كل فن مستظرف.. وهذه النوادر داخلة في الترطيب الجمالي المشروط بما أسلفته مضموناً وإيقاعاً؛ وفي ذلك امتثال نافع لوصية زكي الدين ابن أبي الأصبع رحمه الله تعالى للشعراء؛ إذ قال: « واكتب كل معنى يَسْنَح، وقيِّدْ كلَّ فائدة تعرض؛ فإن نتائج الأفكار كلمعة البرق، ولمحة الطرف.. إن لم تُقيِّدها شردت وندَّتْ، وإن لم تُستعطَف بالتكرار عليها صدَّتْ «(1)؛ وبمراجعتي لكتبي المطبوعة وجدت كثيراً من الغموض سببه: إما سَقْط لتسامحي في التصحيح، وإما لتقصير في التشكيل، وإما لقصور في العبارة لم يُوَصِّل ما هو مفصَّل ومبسط في ذهني.. وأما الغموض الذي سببه بعضُ البُعْدِ بين المتلِّقي والمادة فلستُ مسؤولاً عنه ما دمتُ بذلت وسعي في التسهيل العلمي، وإنما المسؤولية مسؤولية المتلقِّي؛ ليأخذ أُهْبته العلمية.. ولا ريب أن اللغة العلمية المباشرة التقريرية الإحصائية ثقيلة مملة عند إرادة التألُّق الجمالي.. واللغة الإيحائية الجمالية سفسطة وتنطُّع وتزويق عند إرادة الفهم المباشر والإحصاء والرصد؛ فحينما يكون الموضوع فلسفياً أو فكريً يُلِمُّ بأصداء من الفلسفة، أو علمياً من العلوم النظرية التي أحذقها لغةً وتاريخاً وفقهاً.. إلخ؛ فلابد من لغة تقريرية مباشرة أمينةٍ على الاصطلاح تحرص على تفهيم المتلقِّي تفهيماً يتعلَّق بالتصور والحكم معاً، وأداة ذلك لغة مأثورة: مفردةً، وصيغة، ورابطة، وتركيبةً نحوية، وسياقاً، ودلالة بلاغية وفكرية.. وشروط هذه الأداة لا تلغي العنصر الجمالي من ناحية التركيب البلاغي تركيباً لا يُجَنِّح إلى الإيحاء على حساب المباشرة في مسألة علمية تقتضي ذلك، ومن ناحية اختيار المفردة بشروط الفصاحة.. على أنه لابد من استحياء المهجور من اللغة بتطعيم قليل بشرط البعد عن الحشو والتقعُّر؛ حتى تستعيد الصحافةُ لغةَ الأجدادِ بالتدريج، وحتى نجد سعةً من هذا الضيق اللغوي بسبب قصورنا عن الاتِّساع في لغة العرب.. وأما اللغة الجمالية عند كثِّ ما في العواطف، وبث ما في الشجون، وإرادة التعبير الأرقى بالتصوير والإيحاء، وإرادة فاعلية المرسِل وتفاعل المتلقِّي: فذلك له وسائل من الإيقاع الأخَّاذ نستطيع أن نعيشها ونعجز عن وصفها، ولعلكم تعيشون معي هذه اللغة تأصيلاً وتطبيقاً.. ومادة اللغتين: إما إيحاء بذوبٍ عاطفي، وإما إطلاق السجية لتأمُّلٍ فكري أو سبْحٍ خيالي، وإما اختطاف حكم عقلي رصين أخشى أن يكون من المَنْسيَّات، وإما اهتبالٌ ببادرة علمية نادرة، وإما تكميلٌ أو تصحيح أو تفسير أو محاكمة لما هو مطروح من قضايا العلوم النظرية فكراً أو ثقافة؛ وبهذا أكون في عمق التآليف السبعة التي قال عنها الإمام الفحل أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: «وإنما ذكرنا التآليف المستحِقَّة للذكر، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها، وهي: إما شيء لم يُسبق إليه يخترعه، أو شيئ ناقص يتمه، أو شيئ مستغلق يشرحه، أو شيئ طويل يختصره دون أن يخل بشيئ من معانيه، أو شيئ متفرق يجمعه، أو شيئ مختلط يرتبه، أو(2) شيئ أخطأ مؤلفه يصلحه.. وأما التواليف المقصِّرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها، وهي عندنا من تآليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها»(3).
قال أبوعبدالرحمن: ويُغتفر عاديُّ الكلام لمشاركٍ في الصحافة يريد توصيلَ هموم العامة كمن يطالب بفتح مدرسة أو تعبيد شارع.. وخلاصة الأمر أن مشاربي العلمية مصهرجة القنوات: إما بتحقيق علمي يعتمد الأسلوب المباشر واللغة غير المجازية؛ والإحصاء الرياضي.. وإما سبح فكري، وهو أيضاً أبعد ما يكون عن اللغة المجازية، وإنما يعتمد التعريفَ الملِحَّ، والأمثلة، والتقسيم.. آخذ باليمين قانون الهُويَّة بإغداقِ الفروق الدقيقة، وآخذ بالشمال قانون الوسط المرفوع خوفاً من التناقض؛ فإنَّ الرَّبط بين مضامين مفردات الهويات بالعلاقات يُحَتِّم الإلحاحَ على اكتشاف مسوِّغ العلاقةَ بقانون السببية والعلة الكافية.. وإما سبح عاطفي جماليٍّ لغتُه الإيحاء، وفكره تحَسُّسُ مجالي الجمال وعِلمِيَّتِه؛ وذلك بِرَصْدِ ظواهر البهجة التي يبعثها الموضوع في النفس، ورصدُ أحوالِ ذوي البهجة من السُّذَّج ومحدودي الثقافة إلى ذوي التربية الثقافية العالية؛ لتصنيف الجمال الوجداني [الذي يسمونه ذاتياً] تصنيفاً فئوياً.. وهذا مادته الأجناس الجمالية: شعراً، ومقالة فنية، وقصة، وأقصوصة، وحدُّوثة، وحكاية، ورواية، ومسرحية.. مع ما يُستقطر من الفنون الجميلة الأخرى.. إلا أنني أشترط معيار العظمة والكمال.. ولست متفرغاً للوجدانيات، ولست مقصِّراً فيها أيضاً؛ بل لما أحذقه من بعض مشاربَ علميةٍ وَجَب عليَّ أن أؤدِّيه باللغة التي تناسبه، كما أن لمشارب القرَّاء المتعدِّدة حق عليَّ أن أراعيها في جملتها.. إن الموضوع يحتِّم عليَّ أحياناً تطريباً مرقصاً، ولا سيما إن كانت قيمته جمالية محضة.. وقد قلت مراراً: إنني أساعد فطرتي في الكتابة الجمالية بتمثُّلٍ كسْبيٍّ يحاول أن يجمع بين فصاحة الزيَّات، ودُعابة أو لوثة زكي مبارك، وإيقاع أمثال طه حسين ودريني خشبة.. مع ضرورة القيمة الفكرية في الأداء الجمالي بأساليب سلفنا كالشافعي وابن جرير وابن حزم رحمهم الله تعالى.. وأما موضوع أحكام القيم الوجودية الثلاث فأضرب له المثال من اللغة؛ فإذا استقرأتُ براهينها ومسائلها وجدتها ترتدُّ إلى أحكام مثل: هذا مسموع، وهذا صحيح، وهذا خطأ، وهذا أفضل، وهذا أشد، وهذا أخص؛ فهذه أحكام منطقية.. وهذا كلام فاحش، أو جارح، أو مرٌّ، أو نافع؛ فهذه أحكام خلقية.. وهذا باهت، أو بارد، أو خلاَّب، أو مُموسق؛ فكل هذه أحكام جمالية.. والإنسان في حياته العادية، وفي حياته الخاصة: في سوقه، وفي متجره، وفمدرسته، وفي حرفته المهنية اليدوية طباً وزراعة وهندسة، وفي حرفته العلمية مؤرخاً أو أديباً أو فيلسوفاً أو لغوياً.. إلخ.. إلخ: لا تتعدى لغته كلاماً أو كتابةً التعبيرَ عما يتصوَّره، والتعبيرَ عن أحكامه في الأشياء وفي العلاقات بينها.. وهو في كل أحكامه يشتقُّ برهانه من ثلاث قيمٍ جامعة ليس في الوجود غيرها، وهي تتضمن ما لا يحصيه إلا الله من الدلائل والبديهيات والأحكام.. تلك هي قيم الحق والخير والجمال التي تقوم عليها نظرية المعرفة ومنطق العقل الإنساني المشترك.. ونتاج هذه القيم على مستوى هُوية الحرف: إما حصيلة علمية تُغذِّي الذاكرة، وإما زخم فكري عن حصيلة فكرية وتأمُّلٍ فكري فطري، وإما بثٌّ وجداني يدخل فيه كل متعة من بهجة وسرور؛ ففي ذلك الإبداع الخيالي، والتطريب الجمالي، والإثارة الانفعالية.. فأما ما يتعلق بالذاكرة العلمية فيكون بلغة نثرية مباشرة، وأما ما يتعلق بالفكر فيكون بلغة عميقة الذكاء تُحسن التعبير بالمصطلح والتقسيم والتفريق والمثال الشارح.. إلى آخر مقومات اللغة الفكرية، وأما ما يتعلق بالبث الوجداني فلا يكون إلا بلغة شاعرية موحية.. والتربيةُ التعليمية هي المفتاح لتنوُّع المعارف وتواشجها، وتحصيلِ ملكةِ فلسفةِ كل حقل علمي بما يختزنه ذهن المثقَّف ذي المعارف المتنوعة من علاقات ومفارقات تُوَسِّع آفاق المتخصص.. وحسبي ههنا أن أبث هموماً علمية كتبتها جواباً على سؤال وُجِّه إليَّ - في لقاء صحفي -.. ونص السؤال: «هناك أسباب دون شك أفقدت الأدبَ الاهتمامَ الأكبر مقارنةً بما كان في زمن مضى؛ فهل كان الانصراف سبب كل هذه السقطات الهشَّة من شعر وقصة ومقالة ورواية ومسرحية، وهل يكون الإنسان بهذه السذاجة مستمراً في التجاوب مع الاضمحلال الفكري؟؟».. وكان جوابي: «ما يُطرح شيئ، وما يُقرأ شيئ آخر.. والقارئ يبدأ حاوياً؛ فيدفعه حب الاستطلاع إلى أن يجمع في مكتبته ما هبَّ ودبَّ (كما فعلتُ في جمع مكتبة كانت عندي.. جمعتها خلال أربعين عاماً)، ثم يرتفع القارئ من مجرد حاوٍ إلى فاحص، وأرجو أن يوجد هذا الوعي عند غيري قبل سنِّ الأَشُدِّ؛ لأنه لم يوجد عندي إلا في الكهولة التي تسبق الشيخوخة.. والقارئ الفاحص في هذه المرحلة يزحف ويركض على هذا النحو:
أ- أن ينتقي لمكتبته الأمهات من كل فن وإن كان في غير مجال تخصصه؛ فربما احتاج إليها.. والأمهات لغير المتخصص قد تكون واحداً كأجمع كتاب في العروض.. وقد تكون ثلاثة كتاج العروس، ومقاييس اللغة، وديوان الأدب للفارابي في اللغة.. وقد تكون سبعة ككتاب فقهي على مذهب أبي حنيفة، وآخر على مذهب مالك.. إلخ.
ب- أن يثري مكتبته بمعاجم المصطلحات لكل حقل علمي؛ فمدخل كل علم مصطلحاته، ولا غناء للقارئ الجاد والباحث عن ذلك.
ج- أن يثري مكتبته في فن التخصص كالأدب إلى حد الاستقصاء ولكن بانتخاب، ويحذر التراكم من الكتب التقليدية (قديمة، أو عصرية) من التأليفات مكررة المباحث؛ فيتعمق في فهرس موضوعات الكتاب وفهرس مراجعه قبل شرائه.
د- الانتقاء في القراءة؛ فليس كل كتاب يقرؤه من أوله إلى آخره.. بل يختار الموضوع الذي يعجبه، فيقرؤه بعمق من أنفس مصدر لديه؛ فلا أُقدِّم مثلاً كتاباً أدبياً لكاتب تراثي -ولا أذكر أسماءً حتى لا أسيئ إلى أحد- يكرر لنا عيار الشعر، والموشح.. إلخ (ولا علاقة لذلك الكاتب بالمعاصرة) على كتاب لمثل الدكتور إحسان عباس.. ولا أقدم مؤلفاً لشادٍ مغمور -وإن كان مبدعاً عميقاً- على أعمال ألفها مثل جبرا إبراهيم جبرا، أو عزالدين إسماعيل، أو محمد غنيمي هلال.. إلخ؛ فإذا قرأتُ الموضوع الذي يعجبني من أنفس مصدر وأجمعه قراءة واعية: تصفَّحت تصفحاً الموضوع نفسه في بقية المصادر التي انتخبتها لمكتبتي؛ فألتقط (بالتأشير والتذكير على باطن الغلاف) ما هو إضافة أو متابعة أو معارضة.
هـ- لا يشتري الغُثاء، وإذا أُهدي إليه تصفَّحه على عجل، ثم أعطاه أحد الناشئين في بيته، أو جيرانه، ولا يُضَيِّق أرفف مكتبته؛ فإن وثق بقابلية صاحب الغثاء للتوجيه سجَّل له أهم الملاحظات وكاتبه بها؛ فيكون أدَّى رسالته العلمية؛ وبهذا المنهج لا تكون سقطات الطرح الأدبي سبباً في نقص الاهتمام الأكبر بأدبنا، ولا أُسَلِّم بأن الاهتمام الأكبر بالأدب كان في زمن مضى، بل كان اهتماماً بأدب تاريخي معزول عن التطلُّع.. ومسؤولية الأديب اليوم أعظم؛ لِيعْبُر الأدَبين بحسٍّ جمالي، وعمق فكري.. وبقراءة عمق، وقراءة اختزال، وقراءة تصفح.. ولا قراءة مفيدة ألبتة للغثاء المخَّاخي والتراكم الذي هُصِرَ وعصر؛ وإنما هناك الملل، وضيق الوقت، والمدخل الوسيع للشيطان بالجرِّ إلى السخرية والشماتة.. ومن أمثال العامة الحصيفة: (ما في مَعْلُولَةٍ لَبنٌ) [ضم لبنٍ على اللهجتين التميمية والحجازية معاً؛ لأن اللبن هو الاسم لا الخبر؛ وإنما اختلافهم في الخبر].. والتفريق بين ما يطرح وبين ما يُقرأ هو الجواب عن السؤال عن مدى الاستمرار في التجاوب مع الاضمحلال!».
قال أبوعبدالرحمن: لقد أكثرتُ من التأليف، وأكثر ما طبعته من الجرأة التي تبعثها حيوية الشباب والاعتداد بالنفس، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما طبعتُ منها إلا قليلاً.. ولقد رأيت التخلص منها بالانتقاء منها، ثم معاودتها بالتهذيب والإضافة العلمية المحققَّة، وأبقي هزلها في أضابيري للذكرى والعبرة؛ ولهذا فمنهجي هذا مُلغٍ كتباً كثيرة من مؤلفاتي كما أسلفت آنفاً.. على أن من منتقياتي من تلك الكتب ما سأحفل به بعد التهذيب والإضافة.. إلى مؤلفاتٍ رضيتُ عنها بقليلٍ من الرِّضى، ومنها: أحكام الديانة، والذخيرة من المصنفات الصغيرة وغيرهما.. وهكذا كُنَّاشة كتابي (قيد الصيد) على أن قيد الصيد يتضمن ما أضيفه من فكر وعلم إلى تعميق ما اقتنصته من فوائد؛ لأن ذلك قيد أفكار ومعارف.. كما أن جملة ملاعبة الصيد متضمنة معنى (القيد)؛ لأن كونه صيداً يعني أنه مُقيَّد.. إلا أن ذلك على سبيل المجاز، وما جرت به سيرة ذوي العلم يجعل قيد الصيد مرادفاً للكنَّاشة والمحاضرات والمسامرات مما هو تقييد للنوادر والفوائد المأثورة المقيَّدة، وهو مرادف لكتب تقييد الأفكار والفلتات الذهنية كالفنون لأبي محمد علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله، وكان بعضهم يقوم من فراشه ليسجل فكرةً عنَّت له(4).. وملاعبة الصيد مثل (ملاعب الأسنة) التي يُلقَّب بها أبو البراء العامري؛ لمهارته في الحرب مبارزة ومطاردة؛ فجعلت لأقلامي نصيباً من الملاعبة!!.. وبهذا المجاز لا نأبى الاستعارة من لغة المسرح في قولهم عمن قام بجهد في وِفادة أو إصلاح ذات بين.. إلخ: (لعب دوراً في هذا الموضوع).. وعلى الرغم من هذه التعليلات في التسمية؛ فالكناشة أصدق دلالة على ما أسلفته.
قال أبوعبدالرحمن: ومن أسباب غموض أسلوبي عند كثير من الصحفيين -فيما يظهر لي برجحان قريب من اليقين- أنني شديد المقت لكثير من لغة الصحافة المتهلهل، وكان شيخي محمد عبدالوهاب بحيري رحمه الله تعالى يقرِّعني: بأن كلامي كلام جرائد كلما بعدتُ عن حقائق العلم ومصطلحاته، وكان ينيف على تسعين عاماً، وهذا يعني أن شيخنا البحيري من الجيل الذي كان فيه المخبرون الصحفيون علماء أئمة يفهمون ما يُقال، ويقولون ما يُفهم.. ومع هذا كان كلامهم كلام الجرائد، وكان كلامهم مِقْرعَةَ الشيخ البحيري التي يذودنا بها إلى حقائق العلم ومصطلحاته؛ فما لي أندب حظي في جيل من المخبرين الصحفيين -أو الصحافيين على لغة أهل الكوفة-، أو المصحِّفين على لغة أبي هلال العسكري، وحمزة الأصفهاني.. وإلقاء القول على عواهنه آفة كبرى تُضاف إلى قبح اللحن، وتهلهل الأسلوب، والنسيج العادي، واستعارة الترجمات الحرفية المهلهلة، وسترون إن شاء الله في الابتسامات ما يسرُّكم من الكُنَّاشة.
عودة إلى حورية ومعزوفة الدكتور:
قال أبوعبدالرحمن: كل شيئ قالته الدكتورة حورية من اللغو، ولم تذكر شيئاً عن قيمها الحقيقية.. إن في سياق الدكتور عن تلك التي كوَّنها ربُّها أوصاف متتالية؛ فهي: وردة في الرُّبى، وبارق في الدُّجى، وفكرة في النهى، وسنا شمسِها ساحرٌ آتٍ من العُلُوِّ.. ومن صفات التفاعل بين هذه الأوصاف والتطلُّع لحيازة العلم بدلالتها: أنها عنده عذبة المنهل، ونفح الهوى، وسُهْد، وهو يعلو إليها [لا عليها] يرتجي مدداً؛ ولجلالها لا بأس أن تكون وَقْداً يصطليه مدى عُمُره.. وأكرم بها من وَقْدَة!!.. فهل ترك الدكتور عبدالعزيز خوجة أيَّ احتمالٍ للمتلقِّي بهذه الصفات الرائعة المطابقة مجالاً لِلحَيْدَة عن القصد؟!.. هل يُحتَمل مع هذا الجلال والجمال ومِفتاحَيْ العُلُوِّ والمدد غير تحقيق العلم بما يليق بجلال الله وعظمته، وقبل ما أستدركه على الدكتور مضموناً أُحبُّ أن أُبيِّن أن العلم بالله مستعمل عند أهل الطريقة بمعنى (المعرفة)، والمعرفة حِسيَّة مباشِرة؛ ولهذا كثر في قاموسهم مفردات الكشف والتجلِّي والفناء والغياب عن السِّوَى.. والعلمُ -علم المخلوق لا علم الخالق العليم جل جلاله الذي نصب العلامات لغير العالِمين- عِلْمُ استنباط واضح، وعلم لزوم بما تُنْتِجه البراهين من ضرورةٍ ولزوم بوصف يقتضي الكمال المطلق والتقديس المطلق، ولا يملك به أحد معرفةَ التكييف والتحديد.. وهناك علم خاص للمحسنين يجتمع فيه إدراك العقل ووجدان الحسِّ؛ فيكون علمهم أوسع وآكد؛ فيعبدون ربهم كأنهم يرونه بما يعاينونه من ألطاف ربهم، وشفافية قلوبهم بِوِجْدان فيها يشهد بقرب ربهم ورعايته وهم ذرات في هذه المعمورة التي هي ذرة في كون الله، ولهم مُبَشِّرات من لمَّات ملائكة الرحمن عليهم السلام الذين هم أولياؤهم في الدنيا والآخرة بنص القرآن الكريم.. والدكتور ابتداءً سَلَك مسلك عشق العلم لا المعرفة أول الأمر؛ إذْ كان نَسَقُه الجمالي عن مفردات من آيات الله في الآفاق، ثم جاءت مفردات الغِوى والصواعق والمجون واجتلاء الطلعة والسكرة والشفة ولمة ونظرة ورشفة وكوثر سلسل والطلا (وهي مثَلَّثة الطاء تكون بمعنى الخمرة، والظَّبي، والرقبة حسب مدلول كل حركة)؛ فبعض هذه المفردات لا يليق بالعلم النوراني [النون ههنا تفيد بلوغ الغاية من نور العلم، ونور الجمال والكمال]، وهو من قاموس العرفانيين أهل الجذب والكشف، ومنها ما هو محال شرعاً وعقلاً؛ فلا جذب ألبتة، ولا كشف إلا يوم القياة: يرى المؤمنون ربهم، ويناجي الرب جل جلاله مسيئهم مُسارَّة بأن يستر الله عليه قبيحته كما سترها عليه في الدنيا، والويل الويل للكافر إذْ يسمع حساب ربه له مُشَدَّداً، ويسمع تقريع ربه له في مآله وقد تفتَّتت القلوب.
قال أبوعبدالرحمن: وعند حورية في كلامها عن هذه المعزوفة أن الشاعر غالباً ما يبتعد عن الوزن الواحد والقافية الواحدة.. وهذا فضول في هذا الموضع؛ لأن القافية واحدة والوزن واحد؛ وإنما الملاحظ ما أسلفته عن ثبات الوحدة اللحنية (القَفْلَة) المستقرَّة ولو لعدد من الأبيات.. كما أن في القفلة كثرة التدوير، وهو لا يليق بالخبب المتدفِّق، وقد جَرَيْتُ على وضع الميم بين معقوفين عن الحرف المدوَّر من الشطر، فإن كان التدوير بحرفين كرَّرت الميم هكذا [م م].. ووقع في المطلع -ويا ليتها لم تكن فيه- ضرورة مُنَفِّرة، وهي تقديم المَقول على القائل، والفصل بين المَقول والقائل بالجار والمجرور في قوله: (قال كوني لها ربها)، وإلى لقاء، والله المستعان، وعليه الاتكال.
****
الحواشي:
(1) خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي 2-33 عن تحرير التحبير لابن أبي الأصبع ص413 ضمن وصية طويلة وردت ص406-424 أورد فيها وصية أبي تمام للبحتري، فهذَّبها ابن أبي الأصبع ونقَّحها، وذكر ص46 أنه أوردها بكتابه (الميزان في الترجيح بين كلام قدامة وخصومه).
(2) قال أبوعبدالرحمن: الصحيح في مثل هذا السياق كتابة (أم) بدلاً من (أو) في كل ما مر.
(3) نفح الطيب 3-176، وقارن هذا بما ذكره ابن حزم في كتاب (التقريب لحدِّ المنطق) ص10، وقد سطا على كلام ابن حزم القاضي أبوبكر ابن العربي على أنه من بنات أفكاره، ولم ينسب الإبداع إلى أهله؛ وذلك لعدائه الشديد الأرعن للإمام ابن حزم، وليس هو في مَصَفِّه.
(4) قال أبوعبدالرحمن: وقد عانيتُ الأسف المؤلم من جرَّاء سوانح أهملتُ تسجيلها في الحين، ثم عجزتُ عن تذكرها إلى هذه اللحظة.