إن الإعلام الغربي والإعلام العالمي يعطيان للربيع مكانة خاصة في تحليلاته وتعليقاته. وكلمة الربيع العربي وهو ما يغفله العديد من المحللين، ترجعنا إلى سنوات 1848 في أوروبا عندما أتت أمواج عاتية على أنظمة شمولية، فمنها من قضى نحبه ودخلت الانفتاح السياسي
ومنها من لم تركب موجة الانفتاح فاستعصى خروجها من النظام الشمولي؛ وذكري لهذا المثال ما هو إلا استرجاع تاريخي لوقائع وقعت وربما قد تعرفها حتى دول شمال المتوسط، إذ يتطلب هذا المقام التساؤل عن دول أوروبية مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا حيث احتجاجات الشوارع جعلت أنظمة تنادي بانتخابات سالفة لأوانها كما في إسبانيا أو أزاحت حكومات انتخبت ديموقراطيا كما هو شأن اليونان وإيطاليا.
يخطئ بعض المحللين عندما يظنون أن السلم الاجتماعي تترسَّخ جذوره بمجرد حلول ربيع الانتخابات بصفة دورية ومستمرة؛ فالسلم الاجتماعي معادلة صعبة يدخل فيها السياسي والتنموي، إذ بدون تنمية اقتصادية وتنمية مستدامة تَعوَّجُ أغصان شجرة الدولة بل قد تذبل ويصيبها الأذى ويحكم عليها بالزوال إذا لم تعمم الحكمة بسرعة، وترو الجذور بماء التنمية البشرية المستدامة والحكامة الجيدة؛ وبالإمكان أن تنجح هذه العملية إذا كان هناك عقلاء مختصون يخططون وينفذون نمطا للتنمية يمكن الإنسان بدلا من تهميشه من توسيع فرصه وخياراته، ويقوم بالتركيز على دور البشر ككائنات فاعلة لا مستهدفة بتدخلات محدودة أو مقيدة في الزمان والمكان.
إن التنمية هي انبثاق ونمو كل الإمكانات والطاقات الكامنة في كيان معين بشكل كامل ومتوازن، سواء كان هذا الكيان فردا أو جماعة أو مجتمعا، ويرى شرام وليرنر أن التنمية ما هي إلا تغيير قوي وكبير يحرك الأمة نحو ذلك النوع من الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي تقررها وتحددها لنفسها؛ وتكون بذلك التنمية وسيلة للتغيير نحو الأنماط المجتمعية التي تسمح لها، ليس فقط بتحقيق القيم الإنسانية المثلى، بل أيضا إلى زيادة قدرته على التحكم والسيطرة على نمو مجتمعه؛ فالتنمية عملية شمولية تتكامل فيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي بالتالي عملية مخططة ومحكمة تحدث تغييرا جذريا في بناء اقتصادي قوي؛ كما تكون السياسة التنموية تعبيرا عن آراء المواطنين واستجابة لحاجاتهم؛ وتنفذ تلك التنمية بموازاة تشريعات ضامنة وجريئة وسلطة قضائية مستقلة، ومؤسسات قوية.
ثم إن المحور الذي يدور عليه كنه نجاح الدول أو فشلها هو عامل الثقة الذي يغرسه حاملو لواء التسيير في المجتمع، فإذا كثر الشك ونمت بذوره، عمت الفوضى وفقدت الفضائل السياسية من المجتمع جملة واحدة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يصبح استحكام قواعد السياسة أمراً صعباً بل مستحيلاً، ولنا في تجربة بعض الدول ذات الحمولة الطائفية أفضل مثال نتبين منه كيف أن انعدام الثقة بين أطياف المجتمع الواحد أدت إلى تفكيك الدولة، وتحطيم قواعدها الفكرية والمادية، وإزالة عناصر القوة والتوحد، وإزالة النسيج الداخلي الماسك لمقومات الأمن والاستقرار، وتنفيذ القوانين والعدالة، وضياع وقت كبير في بناء المؤسسات واستتباب الأمن.
وعلى الجميع أن يعمل في إطار المؤسسات وفي إطار الدولة الأم ومحاولة الإصلاح من الداخل بعقلية جديدة وبأفكار متنورة جديرة بالمحافظة على القشرة الحساسة الحامية لهبة الدولة ولمبدأ ديمومة المؤسسات ؛ فكل التجارب السياسية التي مرت منها دول أوربا الغربية والشرقية وأمريكا اللاتينية كانت صعبة وشاقة، ولكن محدد النجاح أو الفشل هو الثقة، الذي يجب أن يغرس ويسقى بماء الذهب في المجتمع وبين المؤسسات بل وبين الأفراد وحاملي لواء تسيير الدولة وأجهزته؛ ولأنه إذا تقوى الشك وانعدمت الثقة بين الفرد والدولة وبين الفرد والمجتمع عمت الفوضى وتلاشت الفضائل السياسية في المجتمع دفعة واحدة، فلا الفرد يثق في المؤسسات ولا قدرتها على التسيير والتنمية ولا هيبة الدولة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرقبة، فينغمس المجتمع في القيل والقال ويغرق في بحر الهم والجدال ويبعد رجالات الدولة الأكفاء عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي تبخرت ويهترئ النسيج الداخلي الماسك لمقومات الأمن والاستقرار والميسر لقواعد التنمية المستدامة والحكامة الجيدة، ويضيع الوقت الثمين في بناء المؤسسات وتعميم الأمن والاستقرار؛ فدول كمصر وتونس وغيرهما ينبغي على الفاعلين السياسيين فيها حسن الظن بالمؤسسات والأفراد وطي صفحة الماضي وترك زرع بذور الشك المستمر في أذهان الناس وعقولهم احتياطا من الريبة والسخط وأمارات التوتر والنفور بل الوصول إلى حد التقاتل المشين كما وقع بين الأقباط والمسلمين في مصر، فهذا مخالف لأدنى شروط العقل والتعقل ومورث للريبة والشك داخل المجتمع ومقوض لأسس تجذير السلم الاجتماعي داخل المجتمع، وتصبح قشرة الدولة الحامية مفقودة وسورة الغلب من الكاسر ممنوعة وشارة الغلب معدومة فترتفع وتيرة المنازعة داخل المجتمع وينتبذ الناس رجالات الدولة وأتباعهم؛ وعجبا أن الناس نسيت أو تناست ما جاء في الحديث الصحيح “خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله، وحسن الظن بعباد الله وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله”.
ثم إن مبدأ الثقة ليس حصرا على الدول العربية، بل بالإمكان استحضار ما يقع في الفضاء الأوربي من ثورة شعبية على حكام انتخبوا بطريقة ديمقراطية ولكن ذلك لم يغنهم شيئا لأن مبدأ الثقة فقد بينهم وبين منتخبيهم بسبب عدم قدرتهم على تسيير الاقتصاد الوطني ومحاربة البطالة وإيجاد مناصب الشغل والحد من المديونية.
فأزمة الديون في اليونان جعلت شرائح المجتمع مجتمعة تخرج إلى الشوارع إلى أن تنحى رئيس الوزراء ببانديريو عن السلطة وتبعه في ذلك رؤساء أوربيون اَخرون بمن فيهم الميلياردير الإيطالي سيلفيو برليسكوني الذي اضطره الغليان الشعبي والديون الإيطالية التي وصلت إلى 1.9 تريليون أورو إلى التخلي عن عرشه، وللذكر هنا فإن نسبة الفائدة على قروض التمويل التي أصدرتها حكومة برلسكوني في شكل سندات إلى 7.35 في المائة لتفوق بذلك نسبة 7 في المائة التي جعلت دولا كاليونان والبرتغال وإيرلاندا تطلب الحماية النقدية الدولية وما لذلك من تبعات سلبية في المدى المتوسط والبعيد؛ كما أن إسبانيا التي عرفت أشهرا عجافا بسبب البطالة والمظاهرات التي عمت شوارع مدريد وبرشلونة جعلت رئيس الحكومة ينادي بانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، كما أن هذا الربيع الرأسمالي وصل إلى قلب العاصمة الفرنسية عندما قررت حكومة ساركوزي السابقة اتباع سياسة التقشف وذلك بخفض الإنفاق الحكومي بمائة مليار يورو (140 مليار دولار) وحتى سنة 2016 اتقاء لما وقع في إيطاليا.
كل هاته الحكومات وصلت عن طريق صناديق الاقتراع؛ ولكن المواطن الأوربي لم يعد يثق في تلك الزعامات التقليدية الأوروبية.
ومعنى كل هذا الكلام أن عامل الثقة من أكبر الركائز في تجذير أصول الحكم، وتحقيق التنمية من اكبر دعائم بناء المؤسسات وخلق السلم الاجتماعي.