الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى - هكذا يقال. والأمراض - كما هو معلوم - تصيب أجسامنا في أي موضع وفي أي عمر. وبعضها قد يبدأ بفشل في أحد الأعضاء - إذا كان ولادياً أو موروثاً - وبعضها قد ينتهي بفشل عضوي - كالفشل الكلوي مثلاً - إذا كان المرض مزمناً ومستعصياً على العلاج. وكذلك المجتمع يصيبه الوهن إذا كان النمط المعيشي لمعظم أفراده غير صحي. ومثال ذلك الاستهلاك الغذائي المفرط والاعتماد على الغير في العمل والإنتاج والإفراط في الراحة البدنية وقلة الحركة، وما يواكب ذلك من زيادة في وبائية البدانة والسكري وغيرهما. هذا النمط المعيشي المتراخي لا يشكل بيئة ذات تربة صالحة لتنشئة شباب نشيط مفعم بالحركة والرياضة والقدرة على التحمل والإبداع. الإبداع؟ نعم. أليس العقل السليم في الجسم السليم؟ هذا النمط مقبرة للحوافز الخلاقة التي تغذي التربة وتهيؤها لأن تكون صالحة تنمو فيها الزهور الشبابية المتفتحة الطرية.
إذا لم يكن الأمر على هذا النحو المتشائم فلماذا ننتبذ غالباً مكاناً قصياً متوارياً خجولاً في المنافسات الرياضية العالمية وآخرها أولمبياد لندن- باستثناء يتيم، هو سباق الحواجز للخيول؟ وفي كرة القدم أودعنا تصنيف الفيفا في الخانة (104)! وهي منزلة لا تقاس على الإطلاق بمكانة هذه اللعبة في بلادنا وما يعطى لها من الاهتمام الإعلامي والرسمي ويبذل لها من الأموال لتوظيف المدربين واللاعبين الأجانب ومكافآت اللاعبين المحليين.
على أن المسابقات الرياضية الدولية ليست هي المقياس الأهم والوحيد للصحة والنشاط الرياضي في مجتمعنا. فهذه دراسة أجرتها مجموعة علمية لحساب مجلة (لانسيت) الطبية البريطانية لمستويات النشاط البدني في دول العالم ونشرتها المجلة في موقعها على الإنترنت بتاريخ 18يوليو 2012م، وتوصلت الدراسة إلى نتائج حددت نسب ممارسة النشاط البدني بين السكان في مختلف دول العالم، وجاءت المملكة في ذيل القائمة التي ضمت (122) دولة، حيث كان ترتيبها الثالثة قبل سوازيلاند و مالطا. وليس في ذلك ما يدعو للدهشة في ضوء اتباعنا للنمط المعيشي المتراخي الذي أشرت إليه آنفاً. ونعرف من دراسات علمية محلية أن نسبة البدانة بين السعوديين عموماً بلغت 36% ونسبة السكري 18% - (كتاب النظام الصحي السعودي- 1430هـ).
وحيث أن هذا المقال يركز على المجال الرياضي فإن طرح هذا السؤال جائز : لماذا نترك النمط المعيشي يجر عربتنا الرياضية إلى مؤخرة القافلة؟ إن نحن تركنا له الحبل على الغارب فسوف تتوقف العربة عن السير ويصير مصيرنا الفشل الرياضي. أين البرامج الاجتماعية والتربوية التي ترعاها الدولة والمجتمع المدني والتي بإمكانها أن تبعث الحوافز الخلاقة من مراقدها؟ لا شك أن إيقاظ الوعي المجتمعي بأهمية النشاط البدني لصحتنا واستمتاعنا بالحياة وإنشاء النوادي الرياضية الصحية ووضع مسارات للمشي الرياضي هي من أمثلة هذه الحوافز ولكنها لا تنشئ أجيالاً رياضية. الأهم من ذلك والأكثر جدوى هو أن تنطلق شرارة البدء في عمر الطفولة المبكرة مع أول التحاق بالدراسة. حصة التربية البدنية يجب أن تتحول إلى نشاط رياضي منهجي لا يكتفي بالتمارين السويدية الروتينية وبعض مباريات التسلية، بل يكون محفوفاً برعاية مستمرة تعمل على تطوير قدرات الطلاب وإتاحة الفرص للموهوبين منهم في أنواع الرياضة المختلفة لزيادة التمرين في أوقات النشاط اللاصفي والمشاركة في المسابقات بما يتلاءم مع مراحل النضج والنمو الجسماني، ودعم ذلك بحوافز تشجيعية. ربما يكون مفيداً أو لازماً أن يوضع هذا النشاط الرياضي المنهجي تحت أعين رعاية الشباب التي تنسق مع مديريات التعليم لاكتشاف الموهوبين ومن ثم وضعهم ضمن برنامج تدريبي منظم في كل منطقة من مناطق المملكة ولكل نوع من أنواع الرياضة مع توفير المدربين لها. ولعله يبرز بفضل هذه البرامج رياضيون مؤهلون من خلال مشاركتهم في مسابقات (أولمبية) محلية على مستوى المناطق ووطنية على مستوى المملكة. مسؤولية تنظيم هذه الأولمبيادات تقع على عاتق رعاية الشباب متعاونة في ذلك مع الجهات التعليمية. وسيكون للتنافس على الجوائز المعنوية والمادية التي تمنح في مثل هذه المسابقات الأولمبية المحلية والوطنية دور هام في إثارة الحماس بين الرياضيين وأفراد المجتمع للمشاركة أو الدعم والتشجيع. إن التأهل للمنافسة والفوز بالجوائز على المستوى المحلي والوطني متاح بطبيعة الحال لأعداد محدودة من المتفوقين، ولكن هذه الأعداد ما هي إلا قمة هرم طبقاته وقاعدته تتكون من عشرات الآلاف من الطلاب الذين تم تدريبهم وإلحاقهم بمختلف الأنشطة الرياضية، ومن وراء هؤلاء مئات الآلاف من أولياء الأمور والأقارب والأصدقاء والمشجعين والرعاة. وهكذا تكون مثل هذه الأولمبيادات (أو المرجانات- إن كانت هذه التسمية أفضل) هي المحفز الأكبر لخلق بيئة رياضية تطرد شبح الفشل الرياضي. البداية إذن هي في إعلاء قيمة النشاط الرياضي ضمن المنهج التعليمي، ثم موالاة الحفز والتشجيع والتدريب المنظم والتعاون مع رعاية الشباب في اكتشاف وصقل المواهب الرياضية وتنمية روح التنافس بين الرياضيين وتنظيم المهرجانات الرياضية التي تبرز الموهوبين والمتفوقين. للإشارة فقط فإن حصة السباحة في مدارس ألمانيا إلزامية، وأيضاً فإنه خرج من رحم الجامعات في أمريكا أبطال في كرة السلة. ولكننا قبل هذا وذاك نتذكر قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل.