إنه عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر، صحابي من صغار الصحابة سناً، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وله من العمر سبع سنين، إذْ كان والده حنظلة قُتِلَ في غزوة أُحُدْ في السنة الثالثة من الهجرة، وهو الذي غسّلته الملائكة، ويقال لعبدالله وبنيه أبناء غسيَل الملائكة.
ولد عبدالله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، لأنّ أباه قُتِلَ بأُحد، ولما توفي النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كما قال ابن الأثير: كان لعبدالله سبع سنين، وأمه جميلة بنت عبدالله بن أبي سلول، فدخل الليلة التي في صبيحتها قتال أحد، فبات عندها، فلما صلى الصبح عاد إليها، فأرسلت إلى أربعة من قومها، فأشهدتهم عليه أنّه دخل بها.
فقيل لها لِمَ فعلت هذا؟! بعد ذلك، قالت: رأيت كأنّ السماء انفرجت، فدخل فيها، ثم أطبقت فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه، وعَلِقَتْ من وقتها بعبدالله تلك الليلة (أسد الغابة 3: 218).
ويقول ابن سعد في طبقاته، وكان حنظلة بن أبي عامر الرّاهب، لما أراد الخروج إلى أحد وقع على امرأته جميلة بنت عبدالله بن أبيّ بن سلول، فعلقت بعبدالله بن حنظلة، في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة.
وقُتِلَ والد عبدالله: حنظلة بن أبي عامر يومئذٍ شهيداً، وهو جُنُبْ فغسّلته الملائكة رضي الله عنه فيقال لولده: بنو غسيل الملائكة، وولدت جميلة بعد ذلك بتسعة أشهر ابنها عبدالله هذا، فَقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن سبع سنين.
وذكر بعضهم أنه قد رأى رسول الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر، وقد روي عن عمر (الطبقات 5: 66) وقد عقد صاحب كتاب: حياة الصحابة، باباً عن الصحابة رضوان الله عليهم، ورؤيتهم الملائكة، وتولّيِ الملائكة غسل جنائزهم، فقال: أخرج أبو نعيم في الحلية، عن محمد بن لبيد، عن حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه، أنه التقى هو وأبو سفيان بن رجب يوم أحد، فلما استعلاه حنظلة بالسيف، رآه شدّاد بن الأسود، وكان يقال له: ابن شعوب، قد علا أبا سفيان بالسيف فضربه شدّاد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - إن صاحبكم -، لتغسّله الملائكة، فاسألوا أهله: ما شأنه، فَسُئِلتْ صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب حين الهاتفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لذلك غسّلته الملائكة، (حياة الصحابة 4: 377).
وقد كان يكنى بأبي عبدالرحمن، وقيل بأبي بكر، وسِيّ أنصاريّ، قال عنه ابن الأثير: كان فاضلاً صالحاً، عظيم الشّأن، كبير المحلّ، شريف البيت والنّسب والسّبب، سمع قارئاً يقرأ: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} الأعراف: 41، فبكى حتى أشرفت نفسه أن تخرج، ثم قام.. فقيل له يا أبا عبدالرحمن، اقعد.. فقال: منع مني ذكر جهنّم القعود، ولا أدري لعلّي أحدهم.
وكان مع ورعه وعبادته، زاهداً متقشّفاً، قال مولاه سعيد: لم يكن لعبدالله بن حنظلة رضي الله عنه فراش ينام عليه، إنّما كان يُلْقِى نَفْسَهُ، إذا أعيا من الصّلاة، يتوسّد رداءه وذراعه، ويهجع شيئاً (أسد الغابة).
لقد روى عبدالله بن حنظلة، عن عمر بن الخطاب، وكعب الأحبار، وحدّث عنه عبدالله بن بريد الخطميّ رفيقه، وابن أبي مُليكة، وضمضم بن جوس، وأسماء بنت زيد العدويّة وغيرهم.
قال الذهبي: لما وثَبَ أهل الحرة، روى الواقدي بإسناد: انهم أخرجوا بني أمية من المدينة، وبايعوا: ابن غسيل الملائكة على الموت.
ويعني عبدالله بن حنظلة، فقال: يا قوم، والله ما خرجنا، حتى خفنا أنْ نُرْجَمَ بالحجارة من السماء،
وكان يبيت تلك الليلة في المسجد، وما يزيد في إفطاره على شربة سويق، ويصوم الدّهر، ولا يرفع رأسه إلى السماء، فخطب وحرّض على القتال، وقال: اللهم إنّا بِكَ واثقون، فقاتلُوا أشدّ القتال، وكبّر أهل الشام ودُخِلَتْ المدينة من النواحي كلها، وقُتِلَ النّاس، وبقي لواء ابن الغسيل ما حوله خمسة، فلما رأى ذلك رمى درعه، وقاتلهم حاسراً، حتى قُتِلَ، فوقف عليه مروان، وهو مادّ أصبعه السّبابة، فقال: أما والله لئن نصبتها ميّتاً، لطالما نصبتها حياً، (سير الأعلام والنبلاء 3: 324)
كان عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه، يمثّل حَرْصْ الصحابة في طلب العلم وتبليغه، فقد كانوا يحرصون على التّعلّم: الصغير يأخذ عن الكبير، والعارف يعطي المسترشد، فالآخذ يتأدّب مع من يتلقّى عنه، سؤالاً وتعليماً، فإذا تعلّم طبّق وبلّغ غيره، فقد قال أنس رضي الله عنه، كنا قعوداً مع النبيّ، فعسى أن يكون قال: ستّين رجلاً، فيحدّثنا الحديث، ثم يدخل لحاجته، فنراجعه بيننا هذا ثم هذا فنقوم كأنما زرع في قلوبنا، أخرجه أبو يعلى، ونموذج عمل الصحابة، ما رُوِيَ عن فضالة بن عبيد، أنّه كان إذا أتاه أصحابه، قال: تدارسوا وأبشروا وزيّنوا - زادكم الله خيراً - وأحبكم وأحبّ من يحبكم، ردوا علينا المسائل، فإن أجر آخرها أولها، وأحيطوا حديثكم بالاستغفار، أخرجه الطّبراني في الكبير، وقال الهيثميّ: رجاله موثوقون (حياة الصحابة 4: 68).
وروي بإسناد حسن: أنّ عبدالله بن حنظلة رأى النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على ناقة، كما رُوِيَ أنه رأى النبيّ وروى عنه، فكان الفقهاءُ يأخذون من عمل أم عبدالله في الاستشهاد أن زوجها دخل بها، دليلاً على وجوب الحيطة في دفع الرّيبة، حتى لا تتّهم بالحمل من غير زوجها، كما يأخذون من رؤيته للنبي عليه الصلاة والسلام، يطوف على ناقة، جواز الركوب للطائف أو حَمْلِهِ، ومن باب أولى في السّعي، ومن بكائه عند سماع آية من كتاب الله تذكر النّار وعذابه، خشيته ورقّة قلبه.
روى المسيّب بن رافع، ومعبد بن خالد، عن عبدالله بن يزيد الخطميّ، وكان أميراً على الكوفة، قال أتينا قيس بن سعد، ابن عبادة في بيته، فأذّن للصلاة، فقلنا: قم فصلّ بنا، فقال: لم أكُنْ لأصلي بقوم لست عليهم أميراً، فقال عبدالله بن حنظلة: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الرّجل أحق بصدر دابته، وصدر فراشه، وأن يؤم في رحله، قال: فقال قيس لمولى لهم، قم فصلّ بهم.
ومن هذا الحديث الذي رواه عبدالله بن حنظلة: جاءتْ عبارة الفقهاء: زلا يؤمنّ الرّجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه، وفي أيام الحرّة لم يصرْفهُ الوطيسُ، وحماوته عن الاهتمام بصلاته، والخشوع فيها، فقد روى ابن سعد في طبقاته قال: وحانت صلاة الظّهر، فقال لمولى له: اِحْمِ ظهري لي حتى أُصلّي، فصلّى الظّهر أربعاً متكئاً، فلما قضى صلاته، قال له مولاه: والله يا أبا عبدالرحمن ما بقي أحد فعلام نقيم؟ فقال: إنّما خرجنا على أن نموت، ثم قدّم بنيه الثّمانية: واحداً واحداً، حتى قتلوا كلّهم، ثم كسر جفن سيفه، فقاتل حتى قُتِلَ في ذي الحجّة سنة 63 من الهجرة (طبقات ابن سعد 5: 67).
كما ذكر أن معاذ بن معاذ أخبره قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس، عن عبدالله بن حنظلة.. قال: صلى بنا عمر صلاة المغرب، فلم يقرأ في صلاته هذه في الركعة الأولى شيئاً، فلّما كان في الثانية قرأ بفاتحة الكتاب وسورة، ثم قرأ لفاتحة الكتاب وسورة، ثم قرأ الفاتحة وسورة، ثم صلى حتى فرغ ثم سجد سجدتين ثم سلّم (الطبقات 5: 66) ولم تؤكّد عند الفقهاء هذه الحالة.
قال ابن الأثير، قال عبدالله بن أبي سفيان، رأيت عبدالله بن حنظلة، في اليوم بعد مقتله، في أحسن صورة فقلت: أما قُتِلْت؟ قال: بلى ولقيت ربّي، فأدخلني الجنّة، فأنا أسرح في ثمارها حيث شئت، فقلت: أصحابك؟ ما صُنِعَ بهم، قال: هم من حول لوائي، لم تحلّ عقده حتى الساعة.. واستيقظت، أخرجه الثلاثة (أُسْد الغابة 3: 219)..
فرضي الله عن عبدالله بن حنظلة الصحابي الشجاع، وقد أخذ عن أبيه الشجاعة والإقدام، وإيثاره الآخرة على الدنيا، وقد حقق الله هذه الشهادة لهما، فكان لوالده مكانة عُرِفَتْ في سيرته، وكان لعبدالله رؤيا تبشّر بالخير والسعادة.
mshuwaier@hotmail.com