لم يشعر وفد الجمعية السعودية للدراسات الأثرية بمغادرته الداخلة وروضة سدير إلا وقد دخلوا في (عودتها) الجميلة، تلك البلدة الغافية على وادي سدير المعروف بـ(الباطن) الذي نقلها من منطقة صحراوية إلى زراعية تتزين بالنخيل، فضلاً عن روح الشباب المفعمة بالحيوية والنشاط التي أخذت تعيد الحياة لبلدةٍ أرهقتها السنون وأثقلها التاريخ.
ما يستلفت النظر ويستدعي الإعجاب هو مواقف أبناء عودة سدير النبيلة لبلدتهم، حيث تجاوزت مرحلة الحنين إلى درجة العشق! وما كنت لدينا وشبابها يتحدثون عنها بحماس، سواء عن ماضيها التليد أو أمنياتهم لحاضرها الواعد الذي يسقيه أولئك الشباب من معين جهدهم وعطائهم وحبهم الذي بقي كامنا في أعماقهم منذ أن غادرها آباؤهم.
دخل وفد الجمعية من بين درفتي بوابتها الشامخة التي أعيد ترميمها بطريقة زاهية مع احتفاظها بعبق التاريخ ورائحة التراث، وكان في استقباله الأستاذ أحمد عبدالرحمن أبو حيمد والأستاذ عبدالله الضويحي حيث رافقا الوفد للعرض والشرح والإجابة عن الأسئلة، وكان من الملفت تلك المنارة الفارهة بارتفاعها متوسطة السوق الرئيس أو ما يسمى بـ(الحوش) وحولها انتشرت الدكاكين، وجرى نقاش ساخن حول حقيقة ارتفاعها العجيب الذي لم يكن ضمن الثقافة العمرانية لبلدان نجد! ولكنهما أقنعا الجمع بالاطلاع على الصورة الفوتوغرافية التي التقطت قبل ما يزيد عن ستين سنة، وقد علقت على أحد الجدران الرئيسة مما يؤكد صحة ارتفاعها. وللبلدة (حوامي) وهي أربعة أسوار تحيط بها، أحدها السور المحيط بالبيوت، والثلاثة الأخرى تحيط بالبساتين والنخيل. ومن أشهر معالمها التاريخية (قصر غيلان) وهو قديم جداً، وفيه بئر مندثرة لكن لا تزال جدرانه الجنوبية والشرقية سليمة.
تجول الوفد عبر الأزقة وتعجبوا من ضيقها! بيد أنها لا شك ترمز لتقارب السكان شكلاً وجوهراً، حيث كان الجار يعد أحد أفراد الأسرة والعلاقات الحميمية تربط بينهما بعيداً عن المشاغل أو المصالح.
والجميل هو ما يصبو إليه أهالي تلك البلدة من الشباب الناضج الطموح وحلمهم الذي لا يبرح أخيلتهم بعودة السكان الأصليين لحفظ تراثهم وترميم ما تبقى من مساكنهم القديمة؛ لتبقى شاهداً على بلدة تاريخية كانت تنبض بالحياة والحركة.. حيث بدأت أسرتا (أبو حيمد والضويحي) بإقامة مشاريع من قبل أبنائهم؛ داعمها العمل والإنجاز من خلال إعادة شكل وهيئة مساكنهم القديمة بنفس مكانها وبالقرية التراثية؛ تأكيداً للبر بوالديهم وأعمامهم وأقاربهم، ووفاء لبلدتهم الدافئة بنبلهم، الشامخة بشهامتهم، حتى أصبحت تلك المساكن حقيقة ماثلة أمامهم، وتحولت من بيوت مهجورة إلى مساكن عامرة وملتقى أسبوعي أو موسمي لأسرهم، حيث مجلس القهوة بنفس طرازه القديم مزينا بالوجار على جانبه حطب السمر، والكمر يحوي دلال القهوة وأباريق الشاهي، والروزنة لحفظ بعض أدوات المنزل واحتياجات الأسرة اليومية، وكذلك وضع السراج للإنارة ليلاً، وهناك حجيرات تصطف تباعا بالإضافة للمصباح وهو مكان تلتقي به الأسرة صباحاً.
وفي مزرعة آل أبو حيمد المتكئة على ربوة تحف بها النخيل؛ كانت المحطة الأخيرة، حيث استضاف الأستاذ أحمد الوفدَ على مأدبة دسمة مشتملة على أكلات شعبية متنوعة غاية في الذوق وسماحة النفس.
من يغادر عودة سدير ستبقى لديه ذكرى سمو وشهامة أولئك الكرماء بالخلق والضيافة الذين يسعون تطوعاً لتطوير القرية التراثية وتنشيط فعالياتها المصاحبة وتكريم الرواد. والمبادرون دوما يرسخون في الذاكرة وتبقى بصمتهم حاضرة في التاريخ.
شكراً لأبناء سدير الذين أحسنوا وفادتنا بما ورثوه من مروءة أسلافهم، وبما يحملونه من مواطنة ضربت أطنابها في قلوبهم، فعبرت عنها مشاعرهم.
rogaia143@hotmail.comTwitter @rogaia_hwoiriny