سؤال في الجذر التكويني لـ»النحن» في هذا الجزء من العالم، وينبثق عن هذا التساؤل العريض عن الصيرورة التاريخية أسئلة «الهوية الكبرى» الثقافية الفكرية منها والاقتصادية والسياسية والاجتماعية و...، والإجابة عنها وسبر أغوارها هي هم الباحثين الأكاديميين والمتخصصين والمهتمين في مؤتمراتهم وندواتهم وقاعات درسهم ومنتدياتهم المختلفة وجلساتهم الخاصة، ولا يعني هذا أنها لا تهم إلا طبقة نخبوية في المجتمع، بل هي في اعتقادي الشخصي من أبرز الإشكاليات المجتمعية خاصة الخليجية منها وعلى وجه الخصوص نحن في السعودية.
والاهتمام بهذه الإشكالية يمتد في تصوري من أعلى مستويات الفكر لدى المنظرين وصناع القرار إلى أعمق وأبسط التصرفات في الحياة اليومية ليشكل نسقاً ثقافياً عاماً تتخلل دراساته جميع الزوايا والمحاور ليس فقط من أجل التشخيص وعلاماته، أو التداعي وتفسيراته، أو النتائج وما تدل عليه من تحديات أو مخاطر على السلام والأمن الاجتماعي وإنما أيضاً بتنظيم تلك الحالة من العجز التي يمكن أن تتلبس المجتمع فتعيق تفاعله مع ذاته وكل جهود التطوير والترقي لتختزلها وتتمثلها وتعزز نوعاً من المكون العام الذي يشبه خليطاً من الماء واليابس لا يترك الماء ماءً ولا اليابس أرضاً ثابتة تتشرب المياه لتنبت الزرع وثماره، وحين تتلبس هذه الحالة مجتمعاً ما تتحول البرامج التنموية والتطويرية والحضارية إلى مؤشرات على مدنية ذلك المجتمع من عمران متطور ومرافق حديثة ودلائل مادية دالة على المدنية المعاصرة. ليبقى السؤال حول جوهر التحضر قائماً ومبحوثاً عن إجاباته في مكونات التواصل الاجتماعي قبولاً واحتراماً، تنوعاً وتواصلاً، وتحرراً من القيود المربكة والمكبلة للطاقات الفردية التي يجب أن توجه للصالح العام والخاص، وفي هذا السياق تصبح معايير الحكم والتفاعل مع قضايا الوعي والعصر والوطن ليست تلك المعايير العامة التي تعبر عمّا استقر في اليقين التنموي وتجاربه ونماذجه وآلياته الناجزة وإنما تحتكم هذه المعايير في بعض الرؤى الشخصية إلى خلفيات مستقرة في مكنون الـ»أنا» فتسفر عن أحكام منبعها فكر الوصاية لا وصاية الفكر، وتستند إلى حيثيات تهرع بعيداً عن صميم القضايا لتلوذ بعموميات مرسلة لا يمكن تطبيق أسس المنطق عليها.
ومنشأ هذه الإشكالية المعقدة: أنه لم يتوافق مع الطفرات الاقتصادية التي كانت وما زالت ولله الحمد والمنة تمر ببلادنا ونتقلب في نعيمها تكوين ثقافي، سياسي، اجتماعي شامل وكامل ومتوازن ينقلنا من الظاهر إلى الباطن، ومن التملك للكينونية الحقيقية التي تجعل الـ»أنا» لدينا متطوراً بشكل تدريجي عقلي ناضج.
لقد أطلق الله عزّ وجلّ على الطبقة التي لا تحسن السلوك الاقتصادي «سفهاء» {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ}، والسفه هذا حكاية عن عدم التوافق بين التفكير والتصرف..، والدافع والمحرك الواقف خلف الـ»نحن» الذي هي مجموع الـ»أنا» للاختيار والمفاضلة ومن ثم الإقدام سواء في النشاط الذهني أو العملي هو التكوين الثقافي الشامل والمتكامل والمتوازن الجامع بين العقلي والنقلي المشار إليه أعلاه.
إن صياغة التعميم ليست واردة هنا لا من قريب ولا بعيد، ولكن وجود مجموعة مؤثرة ولو كانت محدودة خارجة عن السياق الصحيح لـ»النحن» يدل على أننا أمام إشكالية يجب مطارحتها بكل شفافية ومصداقية ووضوح فهي ككرة الثلج تكبر وهي تتدحرج من القمة للقاع.
لقد عكست تعاملات شريحة من أبناء المجتمع السعودي مع وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام أننا بالفعل أمام معضلة حقيقية في صيرورتنا الوطنية.. وقصص وحكايات العنصرية والقبلية هي جانب آخر يكشف عن عجز مناهجنا عن تطوير وعينا الحقيقي بذواتنا.. والشهادات المضروبة الصادرة عن الجامعات الوهمية الناكبة والمنكوبة.. والمراشقات الكلامية والملاسنات العلنية.. والبحث عن المخفي من حياة الناس الذي أمر الله عزّ وجل بستره وعدم اختراق سياجه.
والفرح والشماتة بمصيبة الآخر أياً كان.. والشك والريبة والتشكيك الجازم بالتوجهات والمناهج الوطنية.. والمواقف المتشنجة إزاء منح المرأة حقوقها كما جاءت في الشريعة الإسلامية الصحيحة.. وبذر جذور الجوف ونشر ثقافته بين الناس.. كل هذا وغيره كثير صور تشيء بأننا مجتمع على حافة أزمة في الـ»نحن» إذا لم تكن لنا برامج توعوية مدروسة.. وتذكير بقيمنا ومنطلقاتنا العقدية والثقافية المستندة على ركائز تكويننا الوطني.. وإعادة نظر واعية وصادقة في علاقاتنا بدوائر انتمائنا المختلفة والمتعددة الداخلية منها والخارجية، الشعبي منها والرسمي.. هذا وذاك جهد ضخم يحتاج إلى مشاركة صادقة مخلصة من كل الأطراف المعنية أفراداً ومؤسسات في تعاون يؤسس لبرامج الذوبان في الوطن الذي يستحق التضحية بالروح من أجله وفي سبيل أمنه وعزته ورقيه وتنميته ودمت عزيزاً يا وطني وإلى لقاء والسلام.