مازلنا في إطار البحث العميق والهادف الذي جادت بها قريحة العلامة عباس الجراري عن تشكيل الهوية في المغرب الأقصى ورأينا في المقالة السابقة تقدير المغاربة للإمام مالك باعتباره فقيه المدينة، وما كان معروفاً عنه وعن تلاميذه من أمانة علمية وتثبت في الفتوى.
وهو مما لا شك أدركوه، ولا سيما منهم الفقهاء بحكم رحلتهم إلى الحجاز لأداء فريضة الحج.
وقد تعززت كل هذه الأسباب بالاتصال الوثيق الذي كان للمغرب مع الأندلس وإفريقية، وما كان بينها جميعاً من تبادل الوفود والبعثات، ومع تعدد الهجرات إلى المغرب من الأندلس والقيروان، مما أكد هذا الاتصال ووثق روابطه. ويتحدث التاريخ عن وفود “ثلاثمائة أهل بيت” من القيروان سنة تسع وثمانين ومائة، وهم الذين أقاموا في فاس بعدوة القرويين. كما يتحدث عن قدوم نحو “أربعة آلاف أهل بيت” جاءوا من الأندلس على إثر ثورة الربض التي قامت أيام الحكم بن هشام سنة اثنتين ومائتين. ثم كان أن تقوى هذا الاتصال بتأسيس جامع القرويين في فاس عام خمسة وأربعين ومائتين على يد السيدة فاطمة الفهرية القادمة من القيروان.
وهكذا أتيح للمذهب المالكي أن يستقر ويستمر كذلك، مرتبطاً بالعقيدة الأشعرية وسلوك التصوف السني. معزَّزاً بأسباب أخرى كان من بينها - وربما من أهمها - موافقة طبيعة المذهب القائمة على النص والنقل والأثر والرواية، لمزاج المغاربة النافر من الغموض والإبهام والتعقيد والتأويل. وكان المرابطون قد رسخوا دعائمه واتخذوه قاعدة لسياستهم ومنطلقا لحركتهم الإصلاحية، مما جعله- لمرونته - يتجدد باستمرار اعتماداً على مبدئي الذرائع والمصالح المرسلة، وجعل فقهاءه يلتزمون مواقف نضالية، للدفاع عن حوزة الوطن ورد كل عدوان عليه. وقد قَوَّت هذه المواقف مساندة السلطة للمذهب، في محاربة كل اتجاه منحرف قد يشوش على عقيدة المغاربة.
فعبد الله بن ياسين داعية المرابطين واجه حركة الروافض البَجَلية التي تزعمها عبد الله البجلي في تارودانت، وهم من شيعة الكوفة الغالين. ويوسف ابن تاشفين قضى على البورغواطيين الذين ابتدعوا عقيدة محرفة ووضعوا “قرآناً” وتشريعات بعيدة عن الإسلام، وكانوا قد تقووا في هذا العهد بعد أن كان لهم ظهور محتشم قبل ذلك.
ولعل أكبر حادث اعترض مسيرة المذهب المالكي بعد المرابطين، هو ما حاوله المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية، حين أخذ - سياسياً - ببعض مبادئ الشيعة الإمامية، ولا سيما ما يتصل منها بالعصمة والمهدوية، واعتمدها في إقامة حكمه، وألف في ذلك كتاب “أعز ما يطلب” ؛ مع أنه - فقهياً - كان سنياً، إن لم أقل مالكيا. وحتى في هذا العهد، وعلى الرغم من قوة الدولة، فقد قام الفقهاء بالثورة عليه في سبتة بزعامة القاضي عياض سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
على أن هذا المذهب المهدوي لم يلبث أن وقع تراجع الدولة عنه منذ عهد المنصور الذي وضع كتاباً مختاراً من كتب الصحاح يلغى به كتاب المهدي. وبلغ التراجع أوجه في عهد المأمون الذي نبذ فكر ابن تومرت وما كان يقوم عليه من مبادئ.
ومع ذلك، فقد كان يظهر من حين لآخر بعض الذين يدعون المهدوية والفاطمية، أمثال محمد بن عبد الله الماسي الذي ظهر في سوس أيام عبد المومن الذي قاتله، وعبد الرحيم القحطاني الذي خرج زمن الناصر بالأندلس، وكان يروج لنفسه انطلاقا من حديث “لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورا”، إلا أنه لم يلبث أن حورب وقتل وحمل رأسه إلى مراكش.
كما ظهر التويزري الفاطمي على عهد يوسف بن يعقوب المريني في المائة الثامنة، مدعياً أنه الفاطمي المنتظر، فكان مآله القتل في سوس. وفي القرن نفسه خرج العباس الفاطمي في اغمارة، وتسنى له أن يدخل فاساً قبل أن يقتل. ومعروف في التاريخ ما وقع للعكاكزة، وما كان لعلماء الفترة من فتاوى في اتهامهم بالردة والزندقة، وهم الذين ظلوا على بعض مبادئ مذهب ابن تومرت.
وقد استمرت مثل هذه الدعاوى تبرز حتى عهد قريب، على نحو دعوى البهائيين الذين ظهروا في بعض مدن الشمال المغربي أوائل الخمسين من القرن الماضي، ووقعت محاكمتهم والقضاء عليهم. وهم من الإسماعيلية المنتمين إلى الإثنى عشرية. وينتسبون إلى بهاء الله أو باب الله ؛ مع العلم أن منشئ هذا المذهب في المشرق هو ميرزا الشيرازي التاسع عشر، وآراؤه منحرفة عن الإسماعيلية، وكان يقول بفكرة الحلول السبئية. ومثله ميرزا على محمد صاحب كتاب “البيان”، وكان لا يؤمن بالرسالة المحمدية، ويزعم تمثيل جميع الأنبياء. وخلفه ابنه عباس أفندي المعروف بعبد البهاء.
وقد أبانت هذه الأحداث وغيرها، أنه لا مكان في المغرب للمدعين والمشوشين على المذهب المالكي. وكان قد ورد عن بعض آل البيت الوافدين من كربلاء زمن يوسف بن يعقوب المريني، أنه قال لأصحابه: “ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط، وليس هذا الوقت وقتنا”.
وما ذاك إلا لأن هذا المذهب كان قد ترسخ واستقر، وغدا رمزاً أو أحد الرموز الكبرى لوحدة الوطن، جامعاً بين شماله وجنوبه، في تأكيد واستمرار لما كان قد تم منذ عهد المرابطين الذين وفدوا من الصحراء، وتمكنوا من نشر المذهب في كل الغرب الإفريقي وما كان في أقطاره من ممالك. وهي حقيقة اعتمدتها محكمة العدل الدولية في لاهاي، حين وضعت السؤال حول وحدة المذهب الديني بين المغرب وصحرائه. وكان الملك المغفور له جلالة الحسن الثاني قد عقد في مكتبه بالديوان الملكي بالرباط صباح السبت 26 يوليوز 1975 اجتماعاً تشرف المستشار عباس الجراري بحضوره، قصد التباحث حول الموضوع، وكان يضم بعض الباحثين ورجال الدولة.
وقد تجلت هذه الوحدة المذهبية المجمع عليها باختيار إرادي واقتناع فكري في مستويات شتى، سواء على صعيد السلطة أو الجماهير، أو على صعيد العلماء والفقهاء الذين ركزوا العقيدة الأشعرية وخدموا الفقه المالكي، وبرَّزوا في تدريسه والتأليف فيه والتوعية به.
وإنه لتكفي الإشارة بالنسبة للصحراء المغربية إلى بعض الأعلام كمحمد بَغْيع المتوفى سنة اثنتين وألف للهجرة، وقد عد عند كثير من الدارسين مجدد المائة العاشرة؛ ومحمد يحيى الولاتي المتوفى عام ثلاثين وثلاثمائة وألف، وكان اشتهر بموسوعيته وكثرة تصانيفه وتلاميذه. والحق أنه لا سبيل لعد أمثال هذين العالمين في شمال المغرب وجنوبه، من الذين ركزوا وحدة العقيدة والمذهب، في ظل إسلام قائم على الوسطية والاعتدال، ومنسجم مع ملامح الشخصية المغربية وما يميزها من قيم ومقومات.
وما أحوجنا في المرحلة المعاصرة، وما يعيش العالم فيها من صراعات عقدية وتجاذبات فكرية ونزاعات مختلفة، أن نستحضر واقع بلدنا، ونتمثل تاريخه، ونتمسك بتعددية مكونات هويته، ونجدد دعائم هذه التعددية بما يقوي ثوابتها، ويجعلها قادرة على مواجهة كل التحديات والإكراهات التي تفرضها “عولمة” العصر التي زالت معها - أو كادت - كل الفوارق بين الشعوب، إلى حد قد تذوب معه الهويات الوطنية، ما لم تكن مستندة إلى ركائز روحية هي لا شك سر صمودها وسر بقائها.