إعداد - وحدة التقارير والأبحاث الاقتصادية بـ«الجزيرة»:
إغلاق الوكالات الحكومية التي تقدم الخدمات العامة للمواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية، بلا شك قرار جريئ وغير معتاد عالمياً، حتى وإن كان هناك عجز في السيولة النقدية لتشغيل هذه الوكالات. البيت الأبيض أمر بإغلاق وكالات حكومية صباح الثلاثاء الماضي، بعد فشل الكونجرس في التوصل إلى حل وسط بشأن مشروع قانون لتمويل الأنشطة الحكومية. هذا الإجراء جاء انتظاراً لصدور قرار بتوفير تمويل قصير الأجل لتشغيل الوكالات الحكومية، لتغطية الفترة حتى إقرار ميزانية باقي السنة المالية.
الإغلاق المفاجئ لمرافق الحكومة
ما أن هدأت المخاوف من ضعف الاقتصاد الأمريكي خلال الشهور الثلاثة الماضية، واعتقد البعض أن أوضاع السيولة والعجز قد تحسنت، حتى ساد تفاؤل بتحسن أساسي في معدلات النمو، وصندوق النقد الدولي كان يتمسك بمعدل نمو متوقع للولايات المتحدة بنسبة 2.0%، فاجأت الإدارة الأمريكية الجميع بقرار غلق الوكالات الحكومية حتى تتاح السيولة الكافية للانفاق عليها وتشغيلها، وأمر الإغلاق ليس هو الأول في تاريخ الحكومة الأمريكية، ولكنه حدث منذ 17 عاماً مع حكومة بيل كلينتون أيضا بسبب نزاع على الموازنة.
الغلق انتقائي ولا يشمل المرافق الحيوية المتعلقة بالأمن القومي
من المتوقع أن ينال الغلق الحدائق والمنتزهات العامة، والمتاحف، وما شابهها، كما سيطال بعض موظفي وزارة الدفاع الأمريكية، خاصة في القطاعات غير الضرورية، أيضاً سينال الغلق بعض موظفي وزارة الخارجية الأمريكية من العاملين بالأقسام القنصلية، إلا إن المكاتب الخارجية بالدول الأخرى لو استمر الغلق لفترة أطول سيلحق بقطاع أكبر من موظفي الوزارة، وستحد الإدارة الحكومية من موظفيها في وكالة المساعدات الدولية. غير أن الأمر لن يقتصر على غلق مرافق حكومية وتسريح موظفين، بل سيمتد إلى إجراءات للحد وتقليص سداد الأجور والمستحقات لبعض الأطراف من الدرجة الثانية في الأهمية، مثل شيكات الأجور والمحاربين القدماء وكافة التعاملات المرتبطة ببطاقات الائتمان وجوازات السفر.
التداعيات الاقتصادية لإغلاق الوكالات الحكومية الأمريكية
تشير التقارير الاقتصادية إلى أن هذا القرار سيؤثر سلباً على فقدان وظائف لنحو825 ألف موظف (بعقود مؤقتة) من إجمالي 2 مليون موظف يعملون في الأجهزة الحكومية الأمريكية، إنها إجازة غير مدفوعة أو بدون راتب، هذا فضلاً عن غلق الكثير من المتنزهات العامة ومرافق الخدمة الحكومية غير الضرورية. ويعتبر قرار البيت الأبيض بغلق الوكالات الحكومية هو نوع من الضغط من الإدارة الأمريكية على مجلس الشيوخ الأمريكي الذي رفض يوم الاثنين الماضي مشروعي الموازنة اللذين صدرا عن مجلس النواب.. بشكل يضع مجلس الشيوخ في مواجهة أصحاب الوظائف الحكومية الـ825 ألفاً بما يضر بشعبيتهم التي تشير أحدث استطلاعات الرأي إلى تراجعها كثيراً، ولعل هذا الأمر يستغل سياسياً لصالح تشويه صورة الجمهوريين المعارضين لإقرار الموازنة.
الأثر الاقتصادي إن استمر هذا الغلق لن يقتصر على فقدان وظائف، ولكن سيمتد إلى تعطيل عجلة الدورة الاقتصادية المرتبطة بهذه الوظائف، فإذا افترضنا أن 825 ألف موظف فقدوا وظائفهم، فإن هؤلاء سيتوقفون عن سداد كل التزاماتهم المالية، بشكل سيوجد أزمة أخرى في المصارف أو المؤسسات العقارية، بما سيزيد من حدة أزمة السيولة بالسوق الأمريكي، بشكل يهدد بأزمة أخرى مشابهة لأزمة الرهن العقاري السابقة.
تكرار أو امتداد مثل هذه الأزمات المؤقتة بالاقتصاد الأمريكي، يجعله عرضة للشلل والجمود التام، فالاقتصاد الأمريكي يبدو مكشوفا على كافة السيناريوهات الاقتصادية السيئة، نتيجة عجز وانكشاف السيولة النقدية فيه، وللأسف مفاصل الدولة الأمريكية تقوم على الإنفاق العالي سواء اقتصادياً أو عسكرياً أو غيره.
أكثر من ذلك، فإنه من المتوقع أن يلحق الإنخفاض بقيمة العملة الأمريكية الدولار، نتيجة انخفاض الطلب عليه، فضلاً عن احتمالات واسعة لتراجع أسعار النفط، بفعل تأثير الطلب الأمريكي الذي يتوقع أن يتراجع نتيجة انخفاض طلب المؤسسات المرتبطة بالوكالات الحكومية، وهذا الأمر يمكن أن يترجم في ارتفاعات جديدة وقوية في أسعار الذهب والفضة الذي يمكن أن يشهداً طلباً جديداً عليهما في ضوء تراجع الدولار.
ازدواجية الاقتصاد الأمريكي ما بين الإفلاس الداخلي والمساعدات الخارجية
أغرب ما يمكن أن يلحظه الاقتصاديين، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تقود أكبر برنامج للمساعدات الاقتصادية بالعالم تقريباً، حيث تسعى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى مساعدة الشعوب التي تعاني لتحسين ظروف معيشتها وللتعافي من الكوارث أو مساعدة الشعوب التي تكافح للعيش في دول حرة وديمقراطية، وتستهدف هذه الوكالة توفير المساعدات الاقتصادية والتنموية والإنسانية حول العالم لدعم تنفيذ السياسات الخارجية للولايات المتحدة في إفريقيا وآسيا والشرق الأدنى وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأوروبا.. فالولايات المتحدة ملزمة بتقديم مساعدات مالية لنحو 20 دولة بقيم مالية تصل سنوياً إلى 40 مليار دولار، الأمر المستغرب حقاً هو استمرار مفاوضات الولايات المتحدة لتقديم هذه المساعدات لهذه الدول حتى هذه اللحظة، رغم كبوتها الاقتصادية الحادة، ورغم أنها تتجه من جانب آخر للحصول على أكبر قدر من القروض من دول أخرى.
الدين العام الأمريكي وتجاوز سقف الناتج بداية الخطر الحقيقي
أعلنت الخزانة الأمريكية الأربعاء الماضي أن مجموع الدين العام وصل إلى 16.7 تريليون دولار، وهو يقترب من السقف المعدل مؤخراً والذي يفترض أن لا يتجاوزه إلا بقرار جديد من الكونجرس.. فاقتراب الدين من 100% من الناتج المحلي الإجمالي يحتم رفع جديد لسقف الديون الفدرالية حتى يتسنى للولايات المتحدة الاقتراض وتسيير أمور الإنفاق بالدولة من تشغيل مرافق وسداد التزامات وغيرها.. وتحاول الإدارة الأمريكية الآن رفع سقف الدين الفيدرالي لكي تتفادى التخلف عن سداد التزاماتها، وأيضاً لتتفادى تجاوز عتبة الناتج المحلي الإجمالي.
الولايات المتحدة تواجه وضعاً اقتصادياً معقداً وصعباً، ويمكن أن يتطور في أي لحظة إلى الأسوأ، هذا الوضع لو واجه أي دولة أخرى ربما كانت أعلنت إفلاسها من فترة طويلة. أيضاً لا تزال مؤسسات التصنيف الائتماني صامتة تجاه هذا الوضع الاقتصادي المتهاوي بالاقتصاد الأمريكي، ومن المعروف أن تحركات هذه المؤسسات يضر بالاقتصاد الأمريكي، ويفتح الباب لانكشاف سوقي للمستهلكين والمنتجين، وكل المعطيات تشير حالياً إلى نوع من الفشل الاقتصادي للإدارة الأمريكية في تحقيق إنجازات اقتصادية حقيقية على أرض الواقع تخفف من أزمة السيولة المتفاقمة من شهر لآخر.