أوجعني جداً قول الدكتور القدير والكاتب المميز والمفكر الحر حمزة السالم في مقالته (السلفية على فراش الموت) في جريدة الجزيرة، العدد 14959 وتاريخ 6 ذو القعدة عام 1434من الهجرة: “وروح الدولة السعودية هي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وجسدها الدولة والمؤسسات الحكومية،
فأما الجسد فمشاريع الإصلاح تعمل جاهدة على إصلاح ما أفسده الزمان، وأما الروح وهي دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب فقد وصلت إلى مرحلة متأخرة من شدة المرض....”.
وعطفاً عليه فالتوحيد لا يمرض وفضل شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب على أهل الإسلام عظيم، ولولا أن قيض الله هذا الشيخ الداعية في تلك الفترات لكان الناس اليوم على ماكانوا عليه من الغنوصية المنتشرة في العالم الإسلامي آنذاك والفضل أيضاً لأمير الأمراء محمد بن سعود الذي كان القوة العسكرية التي حمت دعوة التوحيد وهيأت السبل لها في أوساط الناس، وما كان من أخطاء بعض الأتباع المتشددين والمعسرين والمتنطعين فلا يشوه الوجه الأبيض الناصع لرجال الإسلام الذين لا نزال نلمس آثارهم في مجتمعنا ولله الحمد بتوحيد الله جل وعلا، وربما لو عاصرونا لأفتوا في الحوادث المتجددة بالجواز والتيسير بما يليق بفكرهم الإصلاحي وما يتناسب مع عصرنا الحاضر؛ لأنهم كانوا ثائرين على السائد المتخلف وناقمين على تحجر العقول، فليس لهم علاقة بما يحصل من بعض أتباعهم ألبتة فهم الذين أعطوا الصورة الحقيقية لما كان عليه السلف الصالح من قوة وشجاعة وموازنة وتقدير للأمور وقراءة لواقعهم قراءة تتفق مع قواعد الإسلام الصحيح الذي يصلح لكل زمان ومكان، فاختاروا لزمانهم ما يصلح له، ومن الإجحاف لهم من بعض أتباعهم المقلدين فيما بعد أن يكونوا على غير درجتهم في الاجتهاد وتقدير المصالح ودرء المفاسد، والشجاعة التي واجهت واقعاً كاملاً، فالسلف الصالح هم بوابة الإصلاح وضبط المسار لما يتميزون به من فكر نير وتوحيد خالص وسنة نبوية ومنهج قويم لا يمكن أن يحشر الناس في عصر غير عصرهم ويجعلهم في الدرك الأسفل في حين تتقدم الأمم من حولهم وتحقق أعلى درجات التمدن والحضارة، وعطفاً عليه أيضاً أعتقد أن كاتبنا المميز يقصد ما يكتنف الشيوخ من غلو الأتباع وتشدد المريدين، فالشيوخ يأتون بها صافية ولكن من يأتي بعدهم يتشدد، فيسيء لشيخه ويصمه بما ليس به، وهذا ما تم لشيوخ الإسلام على مر تاريخهم، ولم يُفْترَ على شيخ مثل شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، فمنهم من اتهمه بأن مشروعه كان سياسياً ومنهم من اتهمه بالوهابية وكأنها دين جديد، والظلم المبين أن تأتي في هذا العصر وتحاكم من سبقوك في ظل تجريدهم من معطيات عصرهم وفترتهم التي فرضوا فيها التغيير والتصحيح، وربما كان ما نراه تشدداً هو الغاية في التسامح والتيسير، ولو كان الأمر لغيرهم لتشدد بصورة أكثر قساوة ولما نجح في تغيير واقع الناس الذين يتمسكون بما كانوا عليه ويخافون من التغيير، وهذا أشد ما واجهه الرسل والمصلحون، فدائماًرددون: إنا وجدنا آباءنا. قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (سورة الزخرف 22-25).
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب جاء بعد فترة انقطاع اكتنفت الجزيرة العربية التي تم تهميشها وحصارها تماماً من قبل القوى المسيطرة آنذاك على المشهد الإسلامي، وكانت تلك القوى تدعو للبدع والخرافات والشعوذة والدروشة وتشجع مريديها على ذلك، وتحارب كل من خالفهم وتصور أن هذا المنهج معمول به مدة تزيد على خمسمائة سنة تقريبا وهي فترة الظلام والانحطاط التاريخي للعرب الذين لم يقتصر الحرب على دينهم الصحيح وتوحيدهم لله جل وعلا، بل تجاوز ذلك إلى حياتهم الاجتماعية من أقاليم وقبائل، وحينما ظهر شيخ الإسلام ومكن الله له في ظل أمير الأمراء الإمام محمد بن سعود والذي كان سلفيا عالما متدينا محبا لتطهير الدين من مظاهر الخرافة وكل دعوة بحاجة إلى قوة سياسية تدعمها ولو بالقوة، وكان ذلك المشروع التصحيحي العظيم بين أمير الأمراء وشيخ الإسلام، ثم بعد ذلك تبنى الأئمة من آل سعود الدعوة وتحملوا تبعات ذلك بتأييد ومؤازرة من قبل شيوخ الدعوة، ولكن ما ميزة تلك الدعوة التي لم تكن بدعية ولم تأت بجديد وإنما كانت على منهج النبوة وبإحياء نصوص التوحيد الذي يتنافى مع الغنوص الذي أصاب الديانات السماوية والطوائف الإسلامية فحرفها عن هدفها الأسمى الذي بعث الله به الرسل وهو توحيد الله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (سورة الأنبياء 25)، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوت} (سورة النحل 36)...
إن المتأمل في حال النصرانية منذ بواكيرها الأولى يلحظ أن الغنوص قد أفسدها وحولها من التوحيد الخالص لله جل وعلا إلى الشرك عن طريق الغنوصية فجاءوا بعقيدة الثالوث وأن الله حل في جسد المسيح ومسألة الخطيئة والتكفير وغير ذلك من صور الغنوصية التي هي في أخصر تعريف لها بعيداً عن الفلسفة: تنزيل المخلوق منزلة الخالق باستعارة صفات الخالق للمخلوق الذي هو في نظرهم نصف إلهي، لذلك عبد الناس عيسى بن مريم وأمه وعبدوا الرهبان وعبدوا الحجر والكهنة وغير ذلك مما هو حق لله جل وعلا، ونفذت الغنوصية إلى كل اليهودية، وبعد ترجمة العلوم في عصور الإسلام المتقدمة نفذت إلى الطوائف الإسلامية قاطبة وتطبيقاتها في المذهب الاثني عشري تتلخص في عصمة الأئمة، وهم بشر مخلوقون، وتمجيدهم للغيبة التي عطلوا بسببها أعمال الإسلام وكل ذلك من نسيانهم للخالق جل وعلا، وتعلقهم بالبشر الذين لا يضرون ولا ينفعون، وتطبيقاتها في المذهب الصوفي والإسماعيلي والدرزي وغيرها مما هو في عالم الإسلام اليوم تتلخص في كثير من الصور ومنها كشف الحجاب ودرجة اليقين ووحدة الوجود ونظريات الحلول التي ملأت التراث الإسلامي وتجاوزات الحب حتى أنهم خاطبوا الله بلغة المحب للحبيب البشري وجعلوا الله في جيفة الحمار وفي الجبة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وامتلأ التراث الإنساني بصور الغنوصية التي أفسدت التوحيد وإخلاص العبادة لله جل وعلا.
لم تكن الجزيرة العربية قبل الدولة السعودية الأولى بمنأى عن تأثير الغنوص بانتشار مظاهر الشرك واللجوء للمخلوقات في كشف الضر بتقديم صور العبادة الخالصة لله جل وعلا لتلك المخلوقات، ولم تسلم منه نجد ومكة والمدينة وغيرها من الحواضر، وصور ابن غنام الحالة التي وصلت إليها نجد قبل دعوة الشيخ محمد بقوله: “فقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم وهول مقيم، كان الناس يقصدون قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة ويدعونه لتفريج الكرب، وكشف النوب، وقضاء الحاجات، وكانوا يزعمون أن في قرية في الدرعية قبور بعض الصحابة فعكفوا على عبادتها وصار أهلها أعظم في صدورهم من الله خوفاً، ورهبة فتقربوا إليهم، وهم يعنون أنهم أسرع إلى تلبية حوائجهم من الله....”. وكانوا يأتون إلى شعيب غبيرا من المنكر ما لا يعهد مثله يزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور. وفي بلدة (العفرا) ذكر النخل المعروف (بالفحال) يذهب إليه الرجال والنساء ويفعلون عنده المنكرات ما ينكره الدين، فالرجل الفقير يذهب إلى الفحال ليوسع له رزقه، والمريض يذهب إليه ليشفيه من المرض والمرأة التي لم يتقدم لها خاطب تتوسل إليه في خضوع وتقول له: يا فحل الفحول ارزقني زوجا قبل الحول، وكان هناك شجر تدعى شجرة الذئب يؤمها النساء اللاتي يرزقن بمواليد ذكور ويعلقن عليها الخرق البالية لعل أولادهن يسلمون من الموت والحسد، وكان في الخرج رجل يدعى (تاج) نهج الناس فيه سبيل الطواغيت فانهالت عليه النذر واعتقدوا فيه النفع والضرر وكانوا يذهرون للحج إليه أفواجا وينسجون حوله كثيراً من الأساطير والخرافات...”.
وذكر ابن بشر في عنوان المجد أنه قد تصدى له الكثير من الخصوم ونشروا الشبهات في الأقطار المجاورة. وكانت مكة المكرمة من البلدان التي صدّقت تلك الشبهات مما جعل شريفها يومذاك الشريف مسعود أن أمر بإلقاء القبض على حُجاج نجد في عام (1162هـ) و إيداعهم في السجن؛ فمات أكثرهم، و تمكن البعض من الهروب، وذكر ابن غنام في كتابه روضة الأفكار مناظرات الأئمة من آل سعود لشريف مكة ومنها أنه لما تولى أحمد بن سعيد الشريف -والي مكة- الحكم في العام الذي يليه؛ أرسل الهدايا إلى الدرعية، وطلب منهم المناظرة مع علماء البيت الحرام؛ فأرسل الشيخُ والأميرُ عبدُ العزيز الشيخَ عبدَ العزيز الحصين و معه رسالة منهما. فلما وصل تم الحوار في ثلاث مسائل:
الأولى: ما نسب إلينا من التكفير بالعموم. والثانية : هدم القباب التي على القبور. والثالثة : إنكار دعوة الصالحين للشفاعة. فذكر لهم الشيخ عبدالعزيز الحصين أن نسبة التكفير بالعموم إلينا زورٌ وبهتان، و أما هدم القباب التي على القبور؛ فهو الحق و الصواب، كما هو وارد في كثير من الكتب، و ليس لدى العلماء فيه شك، وأما دعوة الصالحين و طلب الشفاعة منهم و الاستغاثة بهم فى النوازل؛ فقد نص عليه الأئمة العلماء، وقرروا أنه من الشرك الذي فعله القدماء، و لا يجادل في جوازه إلا كل ملحد أو جاهل.
فأحضروا كتب الحنابلة فوجدوا أن الأمر على ما ذكر، فاقتنعوا واعترفوا بأن هذا دين الله، وقالوا: هذا مذهب الإمام المعظم، وانصرف عنهم الشيخ عبدالعزيز الحصين مبجلاً معززاً.. والمناظرة الثانية في عام (1204هـ) أي بعد عامين من تولي الشريف غالب شرافة مكة، قرر أن يضع حداً لانتشار الدعوة التي عمت كل بلدان نجد؛ فأرسل كتاباً إلى الدرعية يطلب منهم عالماً يبين لهم حقيقة الدعوة، فأرسل الشيخُ والأميرُ عبدُ العزيز سفيرَ الدعوة الشيخَ عبدَ العزيز الحصين، ومعه كتاب من الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولما اجتمع الشيخ الحصين بالشريف عرض عليه رسالة الشيخ؛ فطلب الشريف أن يحضر العلماء فأبوا المناظرة. وفي المناظرة الثالثة عام (1211هـ) أدرك الشريف غالب بن مساعد شريف مكة قوةَ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي أحكمت السيطرة على منطقتي نجد والأحساء، واستجاب للدعوة بعض القبائل الحجازية، فطلب الشريف أن تقام مناظرة بين علماء الدعوة و علماء المسجد الحرام، فبادر الإمام عبد العزيز بإرسال أحد العلماء المشهورين وهو الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، حيث دارت المناظرة حول مسألتين: مسألة قتال الموحدين الناس. ومسألة دعوة الأموات. وكان الشيخ حمد بن معمر يأتي لبيان حجته بالدليل القاطع و البرهان الواضح من كتاب الله و أحاديث رسوله الصحيحة و أقوال الأئمة و أتباعهم المتقدمين الأخيار؛ فاضطرهم بذلك إلى التسليم له في المسألة الأولى، و الاعتراف بالحق بعد أن لجّوا في المغالطة و العناد حيناً. وتمت أيضاً المناظرة الرابعة مع القوى المحيطة، إذ بعث الإمام عبد الله كتاب الصلح مع عبد الله بن بنيان و القاضي عبد العزيز بن حمد -سبط الشيخ محمد بن عبدالوهاب- إلى محمد علي باشا في مصر، وهناك تمت المناظرة مع علماء الأزهر.
وقد أمر الوالي محمد علي باشا بهذه المناظرة ليتعلل بعذر للهجوم على العاصمة الدرعية، وفي نهاية المناظرة أصدر علماء الأزهر وعلى رأسهم أبوالهدى الصعيدي البيان التالي: “إذا كانت الوهابية كما سمعنا وطالعنا؛ فنحن أيضاً وهابيون” كما نص عليه طه المدور في كتابه بين الحضارات والديانات علما أن مصطلح الوهابية ليس صحيحا ولا يصح، لأن شيخ الإسلام كان على منهج السلف الصالح ولم يأت بدين جديد... والله من وراء القصد.