اليوم هو يوم إفلاس أمريكا إن عجز الكونجرس الأمريكي عن الاتفاق على قرار يرفع سقف الدين الحكومي. وبهذا، فإن الخزانة الأمريكية ستصبح عاجزة عن تسديد بعض المستحقات التي عليها كأجور العاملين والمناقصات والمشاريع الحكومية ومستحقات المتقاعدين وسداد الفوائد والديون الحالة الأجل. وعدم تسديد المستحقات الداخلية له آثار خطيرة اقتصادية وسياسية واجتماعية مباشرة على الداخل الأمريكي، كما له آثار غير مباشرة على العالم أجمع. وأما عدم سداد الديون ومستحقاتها فإن له آثار مباشرة خطيرة ومدمرة للنظام الاقتصادي والمالي العالمي، على حسب تنبؤات النظرية الاقتصادية الموجودة اليوم، وهو موضوع هذا المقال. فالعجز عن سداد مستحقات الديون الحكومية الأمريكية له مُتعلق مباشر بالدولار، وسقوطه من عرش العملة الاحتياط الدولية والتبعيات المدمرة من هذا السقوط المفاجئ على الاقتصاد العالمي. ومعنى عملة الاحتياط هو: العملة التي فرضت نفسها سوقياً على العالم بأن تكون هي مرجع التسعير/ التثمين ووسيلة للتصفيات والتبادل في المعاملات الدولية وغطاء للعملات المتنوعة، وهي اليوم الدولار الذي حل محل الذهب الذي كان في كثير من العصور هو عملة الاحتياط الدولية.
ولكي أبسط على القارئ غير المتخصص، وأشرح له -بصورة تمثيلية- النظرية التي تتنبأ بدمار عالمي اقتصادي في حالة إفلاس أمريكا بسبب تعلقه بالدولار وتبعيات سقوطه المفاجئ كعملة احتياط، فلنتخيل أنه في العصور الوسطى قد أصاب الذهب في العالم كله عفن وفساد. ورغم بساطة الاقتصاد والمعاملات الدولية في العصور القديمة إلا أننا يمكن أن نتخيل الفوضى العالمية في الجوانب المالية والاقتصادية والحقوقية، وأثر ذلك على الاقتصاديات العالمية والسياسات الدولية. فنظرياً، فإن وضع الدولار اليوم في حالة إفلاس أمريكا مشابه للحالة المُتخيلة في حالة فساد الذهب وتعفنه في العصور القديمة، إلا أنه اليوم أشد تعقيداً وخطراً نظراً لتعقد المعاملات الدولية التجارية والمالية وتشعبها وتشابكها.
والنظرية صحيحة، ولكنها ليست شاملة. فلو تصورنا - في المثال السابق - أن الناس والدول في العصور الوسطى كانوا يدركون أن فساد الذهب هو فساد مؤقت، وأنه سيعود كما كان، فهل سيتخلى العالم عن الذهب ولا بديل للذهب آنذاك إلا نظام المقايضة البدائي العاجز عن التثمين والتسعير الدقيق؟ الجواب لا؛ فالحاجة الاجتماعية والاقتصادية شديدة إلى وسيط قياسي مُثمن ومُسعر للأشياء؛ لذا فإني أعتقد أن هذه النظرية كغيرها من النظريات تُخطئ نتائجها إذا عُممت بشمولية تغفل معطيات وعوامل (مجاهيل) مؤثرة. وعليه فإني أعتقد أنه في حالة إفلاس أمريكا فإن وضع الدولار كعملة احتياط لن يتأثر لإدراك السوق العالمية أن هذا الإفلاس هو إفلاس اختياري سياسي داخلي، وليس إجبارياً اقتصادياً. ولهذا شواهد تجريبية حديثة، فلنتأملها.
فقد كان مجرد التفكير قبل عام 2011 بإفلاس أمريكا يعتبر جنوناً وسذاجة اقتصادية، ولكن هذا الطرح الجنوني حصل على مستوى تشريعي -وهو الكونجرس - ثم أتبعه أمراً آخر، كان هو أيضاً من المستحيلات، وهو تخفيض التصنيف الائتماني الأمريكي. وهذا التخفيض بحد ذاته شاهد على أن طرح فكرة إفلاس أمريكا ليس بفكرة ساذجة، بل ممكنة اقتصادياً، بل لعلها تقوي من مركز الدولار بدلاً من إضعافه كما حدث بعد فصل الدولار عن الذهب (وقد تحدثت قبل عامين عن هذا في مقال «ماذا لو أفلست أمريكا كما أفلست من قبل؟» فأكتفي بالإشارة هنا لضيق المقام). وكما حدث بعد تخفيض التصنيف الائتماني للديون الأمريكية. فعندما خفضت وكالة ستاندارد آند بورز التصنيف الائتماني الأمريكي كانت ردة فعل السوق العالمية معاكسة تماماً لتنبؤات النظرية التي نجحت في إثبات مصداقيتها في جميع الحالات (ما عدا حالة اليابان لوضعها الخاص). فالنظرية تُملي بأن تخفيض التصنيف الائتماني للدين الحكومي الأمريكي سينتج منه انخفاض أسعار السندات الحكومية الأمريكية، نتيجة لانصراف الناس عنها؛ ما يسبب ارتفاع عوائدها، أي ارتفاع أسعار الفوائد للسندات الجديدة. وهذا ما حصل عكسه بالضبط؛ فقد ارتفع الطلب العالمي على السندات الأمريكية بمجرد تخفيض التصنيف فارتفعت أسعار السندات، وانخفضت عوائدها إلى مستوى تاريخي لم يحصل مطلقاً في تاريخ أمريكا؛ ما نتج منه انخفاض في أسعار الفوائد للسندات الجديدة. ففشل النظرية عام 2011 كان نابعاً أساساً من عدم وجود بديل عن الدولار كعملة احتياط دولية. وأصبح تخفيض التصنيف الائتماني لأمريكا إشارة للسوق الدولية بأن هناك حالة عالمية متردية اقتصادياً وغير واضحة المعالم؛ ما دفع العالم للهروب لأكثر الملاذات أمناً، وهو السندات الأمريكية الحكومية.
واليوم، وقد تقدم الوضع، لم يعد الحديث عن تخفيض تصنيف ائتماني بل عن إفلاس وتعثر عن السداد. ولكن هل تنجح النظرية في تنبؤاتها هذه المرة ويسقط الدولار من عرشه، وينخفض تصنيف الدين الأمريكي إلى السيئ جداً والمرتفع المخاطرة؟
لا أعتقد - في حالة وقوع الإفلاس - أن النظرية ستنجح في تنبؤاتها هذه المرة أيضاً. وشرح ذلك اقتصادياً أن النظرية لا تشمل حالة أمريكا الاستثنائية التي تخرجها من عموم النظرية، كما كانت هي حالة اليابان الاستثنائية عند تخفيض تصنيفها، وإن كان هناك فرق كبير بين الحالتين الأمريكية واليابانية، وحديثنا اليوم عن الحالة الأمريكية. فبالإضافة إلى العوامل الاستثنائية في حالة أمريكا التي ذكرتها سابقاً، من عدم وجود بديل، وهشاشة الاقتصاد العالمي، فإن الإفلاس الأمريكي هذه المرة ليس سببه اقتصادياً، كما كان في حالة تخفيض ائتمانها، بل هو نزاع سياسي أمريكي داخلي ديمقراطي على سياسات داخلية (وتحديدي بأنه ديمقراطي المقصود منه استثناؤه من المخاطر السياسية التي تؤثر في سقوط العملات). وهذا يعني أن وضع المخاطرة للسندات الأمريكية في حالة إفلاسها اليوم هو في الواقع أقل منه يوم انخفض ائتمانها قبل عامين، حين كانت المخاطر الاقتصادية من أهم عوامل تخفيض التصنيف عام 2011. وعليه، فلا يُستبعد أنه في حالة الإفلاس ألا تتأثر أسعار السندات الحكومية الأمريكية بهذا الإفلاس. ولكن لا أتوقع زيادة الطلب عليها وارتفاع أسعارها كما حدث في حالة تخفيض ائتمانها. (في الواقع أنه يُعتبر ارتفاعاً في أسعار السندات لو ظلت ثابتة، إذا حسبنا الكلفة الحقيقية لها بعد الإفلاس أو انخفاض التصنيف). فلا بديل اليوم، ولا في المنظور المرئي، عن السندات كملاذ آمن ولا عن الدولار كعملة احتياط دولية. ولكي يستوعب القارئ أهمية عدم وجود بديل فلنستحضر مثال فساد الذهب المؤقت لو حدث في العصور القديمة، وردة الفعل العالمية (المُتخيلة) في عدم التخلي عنه لعدم وجود البديل. وللحديث بقية.