يسيّر الاقتصاد العالمي مجموعة من النظريات التي قد تتوافق في معانٍ، وتتباين في مناحٍ أخرى، وترتفع أصوات التأييد لهذه النظرية أو تلك، كما تعلو أصوات النقد والمعارضة، وتتبنى دولة أو مجموعة دول نظرية بعينها أو تحاربها، وهي بهذا تعتقد أن مصالح أبناء شعبها في اتباع ذلك النهج الذي سنته لنفسها، وكل ذلك يظل واقعاً تحت مظلة النظريات. والنظرية - كما نعلم - ليست هي الحقيقة بل هي مجموعة أفكار يُعتقد في صحتها، ولا يجزم بها، بل يمكن أن تتغير بتغير المؤشرات المحيطة بها. في الاقتصاد العالمي، وعبر القرون، جسدت نظريات، وتم تطبيقها كلياً أو جزئياً، كما سارت أمم على نهج نظريات لم يتم تجسيدها وتأطيرها، بل يتم ذلك بالعرف السائد عند تلك المجتمعات. ولقد سارت أمم عبر القرون دون أن ترى لذلك التجسيد ضرورة، فتتعامل مع واقع الحال بما ترى فيه تحقيق المصلحة، وأهم من تحقيق المصلحة طبع واقعها بالتكوين النفسي لمتخذي القرار؛ لذا فهي تتغير بتغيير نظرة القيادات أكثر منها بالتغير الضروري المرتبط بالمصلحة، وهذا - في رأيي - عامل مهم جداً في اختيار النهج الذي يمكن تبنيه لدى مجموعة غير يسيرة من الأمم السابقة واللاحقة. فالنظرية في ذاتها لدى المجتمعات هي تجسيد لتكوين نفسي لفرد بذاته، غالباً ما تزول بزواله؛ لتحل محلها نظرية أخرى، وقد تكون موافقة في معظم أطرها السابقة، وقد تكون متباينة معها.
والنظريات الاقتصادية رغم كونها ثابتة وبيّنة الأطر إلا أنها تحتاج إلى تقويم ومراجعة دائمة للتواكب مع الأوضاع السائدة. فمن الخطأ الاعتقاد أن النظرية ما دام أنها ستكون فهي غير قابلة للتهذيب، غير أن البعض يعتقد أن تبني نظرية بذاتها كما هي هو المخرج الأمثل لحل المشاكل الاقتصادية القائمة في جميع بلدان العالم.
ولو نظرنا للمسالك والنظريات الاقتصادية السائدة في عصرنا هذا لوجدنا نظرية اقتصاديات السوق الحرة، التي تعتمد على قانون العرض والطلب في تحديد السعر وحفز الإنتاج، هي الإطار الاقتصادي لمعظم الدول المتقدمة، وهي التي كانت - وما زالت - تسير على خطى ما ذكره آدم سميث في حديثه عن الأيدي الخفية، لكنها مع مرور الزمن قد هذبت لتكون نظرية اقتصادية مؤطرة، تتبناها تلك الدول.
وغالباً ما يسير البعض في ركاب هذه النظرية، وكأي اقتصاد في العالم، وتحت أي ظرف من الظروف، لا يمكن أن ينطلق إلا من خلال هذه النظرية، في الوقت الذي يعتقد فيه البعض الآخر أن تبنيها فيه هدم لمبادئ ومثل، وأن فيه استغلالاً من قبل القوي للضعيف. وفي وسط هذا الخضم من الأفكار المتباينة التي تدور في أروقة دول العالم الثالث، والعالم الاشتراكي السابق، تستمر القوى الفاعلة في الاتجاه نحو فرض هذه النظرية على المجتمع بأسره، سواء أكان ذلك الفرض من خلال الإقناع بجدواها، أم عبر ربطها بالديمقراطية على النهج الغربي، أم من خلال جمعيات حقوق الإنسان، أم بالتهديد بالمقاطعة. ومهما يكن من أمر فإن إيجابيات هذه النظرية لا تمحو سلبياتها، كما أن سلبياتها لا تنفي وجود إيجابياتها، غير أن صلاحها للتطبيق في مجتمع ما لا يعني قدرتها على التفاعل مع مجتمع آخر.
إن تطبيق نظرية بعينها وسيادتها في دول تنعت بأنها متقدمة لا يعني بالضرورة أن تطبيقها في دول أخرى سوف يجلب الخير والنماء لشعوبها، بل قد يكون في النهج المستمد من تراث تلك الأمم ملاذٌ للرفع من شأنها في الميدان الاقتصادي.