كم مُرِيْعٌ ثقافيّاً أن يقف المثقف «الليبرالي»- الذي صَكّ الأسماع بدعاوَى الحُريّة والديمقراطيّة والمدنيّة- نصيرَ الردّة عن ذلك كلّه. وما ذلك إلّا لحسابات بليدة، وصغيرة، سخيفة، وقصيرة النظر، عشواء، لكنها مصلحيّة، أنانيّة، وصوليّة، تسلّقيّة، في كلّ حال... كيف ذاك؟
إن الديمقراطيّة مركبٌ صعب. والديمقراطيّة- بما هي ضدّ توحُّش الطبيعة البشريّة- تجربة طويلة المدَى، ومسيرة كأداء، ومخاضٌ ضخم، وليست وصفةً سِحريَّةً، تُشرب على الرِّيق، فيغدو الوطن ديمقراطيّاً، بين ضحى وعشيّته.
هكذا نشأت الديمقراطيّات في العالم. ولو أن البلدان التي ترسّخت فيها الممارسات الديمقراطيَّة انقلبت على التجربة منذ (السنة الأولى-ديمقراطيَّة)، لما توطّدت فيها قط. نسوق هذا جَدَلاً، على افتراض أن ما حَدَثَ ويحدث نتيجة عدم رضى عن مثاليّة التجربة الديمقراطيّة. بيد أن مَن «يعرف البئر وغطاءه»، لا يغفل- إلّا بخُذلان من الله!- عن أن التجربة كانت مرفوضة من الأساس، مبيَّتاً إجهاضها؛ لا لأن الفائز بالانتخابات غير مسموح له أصلاً أن يفوز، ولا لأن فوزه مرفوض دائماً في الوطن العربي، من المغرب إلى المشرق. ليس ذلك فحسب، ولكن، كذلك، لداءٍ الكَلَب الثقافي العُضال. لأن الديمقراطيّة، برُمَّتها أو ببعض رُمّتها، لو استتبّت في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، ستعركنا عَرْكَ الرحَى بثفالها؛ من حيث ستُعكِّر صفو مصالح كثيرة لذوي المصالح، وستحرم كثيرين من مراتعهم الخصبة المفتوحة، بلا حسيب ولا رقيب. وبالجملة، ستكون كابوساً على الفساد التاريخي العريق الذي يرعى ويشرب في جسد الوطن العربي الكبير. لهذا كلّه فلن يرتاح للديمقراطيّة ذو مصلحة أبداً، داخليّة كانت أو خارجيّة. ومن هنا فإن (الولايات المتّحدة الأمريكيّة) نفسها- بجلال كذبها- لن يكون من صالح أمرها نشوء ديمقراطيّة حقيقيّة في الشرق الأوسط، ولن ترضَى عن نشوئها؛ لأن مصالحها في الفساد الدولي لا تستقيم مع الديمقراطيّة على الإطلاق، ولأن مصالح ربيبتها، أو ربّتها (إسرائيل)، ستكون مهدَّدة. غير أن ليس ذلك وحده ما حَدَثَ ويحدث، بل إن الأكثر فجائعيّة هو سقوط الفكر الديمقراطيّ والثوريّ العربيّ، معرفيّاً وثقافيّاً، وأخلاقيّاً أيضاً، ليتكشّف الوجه الوثني القديم من جديد؛ ذلك الوجه المجدور الذي ظلّ يعبد الأنصاب والأزلام والطواطم والآطام. سَقَطَ البرقع عن سحنة الشخصيّة الجاهليّة المعاصرة، جاهليّتنا الأُولى، في مدينة أبي جهل، وأبي لهب، والأسود العنسي، ومسيلمة الكذّاب. ولا أتحدّث هنا عن الطُّغاة وشأنهم؛ فهؤلاء مفروغ من شأنهم، وميئوس من حالهم، ولكن عن المثقَّفين أتحدّث، أو قل «المسقَّفين»، كما يسمّون في بعض العاميّات، أو «المسأَّفين» في عاميّات أخرى. وهاهنا تصدق العاميّات، وهي كذوب، في نعت هؤلاء من حيث لا تدري! أجل، عن النخبويّين، كما ينعتون أنفسهم، أتحدّث، أو مَن كانوا يتبجّحون بذلك عن أنفسهم، مدندنين عليه صبحاً وعشيّاً، وفجأة عرّتهم الأحداث، وأماطت اللثام عن أنوفهالجدعاء، كيما يَلِجُوا، بخطابهم الأحول، ومواقفهم الكسيحة، قصر التاريخ الكالح من «أوسخ» أبوابه.
ولكن هل لهذا الليل آخِر؟ أم هل ثمّة من أحد أصلاً؟!
إن تداعيات الأحداث قد فضحتنا في العالم أجمع، مشيرةً، بما لا يدع مجالاً للشكّ، إلى أن لا مثقّفين في العالم العربي، بما تعنيه كلمة «مثقّفين» من معنى شريف. لكنما كلّ ما هنالك طوائف من عساكر شتَّى، كلّ معسكر يتألَّف من زمرة أوباش، هم جنود مجنّدين في سبيل مآربهم، طائفين ساعين بأكناف (هُبَلٍ) ما، تؤزُّهم مصالحهم، وانتماءاتهم القميئة، التي لا تستقيم معها نزاهة، ولا يصحّ بها حياد، ولا تَصْدُق فيها موضوعيّة على الإطلاق. هم «عساكر»، وَفق نمط العسكرة الارتزاقيّة، لا بشرف العسكرة الشريفة، الحامية الأمينة.
لقد جعلت الأحداث من مثقّفينا أخيراً مَن يرفرف في مهبّ الوصوليّة والنفاق! ذلك أن المثقّف الحقّ اليوم هو الإنسان البسيط. وحبّذا أن يكون أُمِّيّاً، كي يكون طاهراً من كذب الإعلام، وهلوسة المفكّرين، وزيف المؤدلجين. حبّذا أن يكون إنساناً فقط، بلا أي خلفيّات مكتسبة، ولا تعليب ذهني. ذلك أن ما صنعه «التعليم» العربي هو: «التعليب»، لا «التعليم»! ما ظلّ يُلقِّنه التعليمُ طفلَنا العربيَّ مِن أن «العِلْم نورٌ»- مع ما كان يقتضيه العِلْمُ النورُ من منهاج مبدئيّ يتمثّل في: مخطَّطٍ عقلاني نقديّ، من أربع مراحل: (1- الملاحظة، 2- الاختبار، 3- التفسير، 4- استنباط القوانين)- كلّ ذلك تكشّف عن هراء. وإنما «العِلْم» الحقّ: قلب الحقائق، بلا ملاحظة، ولا اختبار، ولا تفسير، ولا قوانين. ومن ثَمَّ فإن البنية العميقة لما يلقِّنه (وهمُ الع لم) للطفلَ العربي هو: أن «العلم ظلامٌ، وقتامٌ، وعمًى، وسوادُ وجهٍ وضمير»! فَعَلَ ذلك تعليمنا من خلال تعليم الجهل، وتعليم الكذب في جميع المراحل، وتعليم الخنوع، والعبوديّة، وترويض الطفل على الطاعة العمياء، بلا سؤال، ولا احتجاج؛ فالسؤال حرام، والاحتجاج قلَّة أدب. تعليمٌ يتحوّل الإنسان فيه- الذي كرَّمه الله عن الحيوان بالعقل- إلى سبعٍ ضارٍ، أو حيوان داجن، يقفز كالقرد، ويُمتطَى كالأتان، في أي مناسبة، ولأيّ مناسبة، وبدون مناسبة، ويجيّش في أيّ ظرفٍ مع قطعان التابعين لهذا التيار أو لذاك، مستجيباً كالآلة، بلا عقلٍ، ولا حريّةٍ، ولا كرامةٍ، ولا مبادئ، ولا أخلاق، بل حسب اتجاهات الريح لدى مولاه الذي يوجّهه يميناً أو شِمالاً. ولكن:
جَزَى اللَهُ الحوادثَ كُلَّ خَيرٍ
عَرَفتُ بِها عَدوّى مِن صَديقي!
هذا لسان حال (الثقافة العربيّة) اليوم. أمّا المثقّفون، فمَن قال إن ثمّة مثقفين في العالم العربي؟! إنْ جلّهم إلّا مجنَّدون، كما أشرنا، يردفهم شراذم من إعلاميّين كذبة. وهم كذبة غير محترفين حتى فيما ينبغي للكذاب الفَطِن أن يكون عليه من احتراف في سَبْك الكذب، احتراماً للعقل البشري ولجماليّات الأكاذيب. مؤهلاتهم فرط صفاقة في فرط استخفاف بعقول المتلقّين. وممّا يؤهلهم لما يصنعون كذلك أنهم يتمتّعون بغباء نادر، أو استغباء مقزّز، عن أن الناس تراهم جيِّداً، وتكشف بذكائها عوارهم، وإنْ لم تستطع فضحهم ظرفيّاً، لغياب الحُريّات أصلاً. وسترى أسراب هؤلاء وأولئك كلّ صباح ومساء مصطفّين مع هذا الكمين أو ذاك. لن تراها تتحرّك ضمائرهم، حتى إزاء القتل، ما دام القتلَى من أتباع الصفّ المعارض، أو الكمين المخالف. إن العرب اليوم - بلا مراء - يغسلون إنسانيّتهم من إنسانيّتهم، وينشرون غسيلهم المهلهل أمام العالَم، ولم تعد المسألة هنا مسألة احترابٍ طائفيٍّ أو دِينيٍّ أو حزبيٍّ فقط. والسبب أنها لا تُحرّكهم فيما يقولون ويفعلون مبادؤهم الإنسانية، بل أهواؤهم الإديولوجيّة. لذلك نادراً ما ترى «المثقف» اليوم يقف موقفاً أخلاقيّاً من الأحداث المحتدمة حوله، ينسجم به، على الأقل، مع شعاراته المرفوعة. فلا تستغرب، والحالة هذه، أن تجد الليبرالي العربي - أو مَن يدّعي ذلك- ضدّ الثورة المصريّة، مثلاً، ثم مع الانقلاب عليها، ثم مع الحكم العسكري، ولكنه ضدّ الثورة السوريّة. لماذا كلّ هذه الخلطة؟ وعلامَ حالة الشيزوفرينيا هذه؟ لأن صاحبنا في الأساس ضدّ تيّار واحد، لا يُطيقه، ويسعى للخلاص منه، وإنْ كان الثمن سحق الأرض بما حملتْ! ذلك مستوى أخلاقه الإنسانيّة السامية، ونباهة بصيرته الثقافيّة العالية! إنه مستعدٌّ أن يبيع نفسه وقِيَمه وإنسانيّته ودِينه - إنْ وُجِد!- ومبادئ الحُريّة والعقل والحقّ والخير، في سبيل إديولوجيّته تلك. القومي العربي مستعدٌّ أن يعبد (الشيطان الرجيم) نفسه؛ المهم أن يرفع أمامَه شعار «تسقط أمريكا/ تسقط إسرائيل»! من بعدها لا يهمّ شيء. لا يهمّ ما يفعل طوطمه، وتفعل زبانيته، من حرق الأرض وما عليها، من بيع الكرامة، فضلاً عن الحريَّة، والإنسانيّة. أهم شيءٍ، من كلّ شيءٍ، أن يحافظ على شعاره الكاذب منتصباً: «تسقط أمريكا/ تسقط إسرائيل»! ذلك يغفر له ما تقدَّم من جرائمه وما تأخَّر! وهذه عقليّة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً،دُجِّنت عبر عقودٍ من الغسيل الدماغي، ومشروب الديماغوجيا، والتربية المسخيَّة لجميع مكوِّنات الإنسانيّة في الإنسان، من أجل تحويله إلى كائن منقاد، أو بالأحرى إلى جهازٍ مبرمَج، لا يخرج عن تنفيذ برمجته المعدَّة، ولو احترق.
إنه الجهاد، والاستشهاد، ولكن في سبيل الشيطان، هذه المرّة!