رحل عملاق من عمالقة الأغنية العربية.. رحل وديع الصافي، تاركاً ثروة غنائية لعشّاق فنه قوامها الأغاني الجميلة من الألحان والكبليهات والأسكتشات الغنائية الفنية المشاركة في فن الأداء الغنائي اللبناني، ما بين الفن المسرحي والحفلات المبدعة التي قدمها المسرح الغنائي اللبناني, ليس في لبنان وحسب وإنما في الوطن العربي.. يأتي وديع الصافي, ضمن جوقة فنية عريقة بالفن الغنائي اللبناني.
فقد أطرب جمهوره بصوته العذب الشجي القوي. والذي كأنه ينحدر من جبال الأرز نبعاً صافياً رقراقاً عذب المذاق, وكأنّ المستمع إليه قد ملك مجامع قلبه بنشوة طاغية, متفاعلاً بانسجام مع نبرات صوته وأداء الكلمة واللحن. ثلاثية فنية جميلة متناسقة آسرة, وهل ننسى»على الله تعود على الله».. أو «سهرة حب مع فيروز».. لذلك تأبى إلاّ أن تبقى أغانيه خالدة عظيمة, كمعظم الأغاني العربية الخالدة في قاموس الفن الغنائي العربي، التي لازالت عالقة بالذاكرة لمن هم بمثل جيلي الذين تذوّقوا فن الغناء العربي الأصيل.. أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وحليم وشادية وفائزة والأطرش, وكبار مطربي وصنّاع الكلمة الغنائية العبقة بحرارة الشوق ولوعة الحب، الصادرة من أفواه الشعراء, وترانيم الملحنين المصريين من أقطاب الأغنية المصرية.. ليأتي القطب الغنائي الثنائي اللبناني الرحابة وفيروز, وديع الصافي ونصري شمس الدين وجوزيف صقر وغيرهم. ما أجمل ذلك العهد الجميل. ما بين الفن الغنائي المصري واللبناني. حينما أتت الأغنية المصرية واللبنانية بزخم فني راقٍ تفاعل معه المستمع العربي حتى ليكاد الواحد منهم أن يغني لنا وصلة من هذا المغني أو تلك المغنية, ذهب الزمن الجميل لعهد الأغنية العربية.. ذهب المغنون والمغنيات، وأتت مرحلة المزيفين المتجنّين على الأغنية العربية من شباب اليوم، والذين بأغانيهم الممسوخة كنعيق «الغربان» ناهيك عن غناء العري النسائي الذي يشبه مواء القطط، بغياب أساطيل الأغنية العربية الأصيلة.
وها هو آخر الكبار لفن الطرب الأصيل «وديع الصافي» يلحق بسابقيه، لكنه سيبقى في تاريخ الأغنية اللبنانية إن لم تكن العربية. والذي ما إن يتذكره السامع الهاوي لفنه, إلاّ ويتذكر ذلك الوجه المشرق المبتسم دائماً, سيان كان في حديثه مع من يتحدث أليه أو ممن يشاهده وهو يحنو على عوده يداعب أوتاره. والذي ما إن ينطلق إلاّ وتنتشي طرباً متفاعلاً معه مردداً ما يتفوّه به من كلمة باهرة ولفظة ساحرة.. ومن محاسن الصدف أن التقي بـ»وديع الصافي» بلندن, في عام {1398هـ/1978م} وبما أنني لا أعرف مقر أقامته, فقد سألت الأستاذ الكبير الزميل, عثمان العمير, حينما كان مديراً لمكتب الصحيفة «الجزيرة» بلندن عن وديع الصافي, كيف يتسنى لي مقابلته؟.. فسأل عنه أو هكذا, وفي اليوم التالي, ذهبت إليه, وتحدثنا ذلك الحديث الفني الممتع, عبر رحلة فنية طويلة مع الطرب اللبناني, حكى يومها عن مدرسة الرحابة الفنية وفيروز, وتكلم عن نصري شمس الدين, وغيرهم, قائلاً هؤلاء أساتذة في الفنن المغنى الأصيل, وعند عودتي, نشر الحديث في صحيفتي «الجزيرة» آنذاك.
وديع فرنسيس هو الاسم الحقيقي .. فقد جاءت تسميته بوديع الصافي حينما تقدم للتلفزيون اللبناني وبالذات للجنة اختبار الأصوات ونجاحه بين المتقدمين.. فرأت اللجنة الفنية التي تجري الاختبارات وتفرز الأصوات الفائزة أن يطلق عليه اسم «وديع الصافي» فمنحت اللجنة «وديع الصافي» تأشيرة موافقة العبور للغناء بالإذاعة اللبنانية. وفي غضون سنوات قليلة شق طريقه ما بين المسرح الغنائي المصاحب للرحابة وفيروز.. ومن هذا المناخ الفني العظيم, أنفرد بخصوصيته ليصنع لنفسه عالماً آخر أو مدرسة أخرى أطلق عليها محبوه ومشجعوه مدرسة «وديع الصافي» وعرفه الجمهور العربي من خلال مسمّى «وديع الصافي» لا وديع فرنسيس الاسم الحقيقي.!!
ختاماً وعبر صحيفتنا الجميلة «الجزيرة» لا يسعني إلاّ أن أتمثّل بقول شاعرنا العربي الكبير - أمينه نخلة - وهو يزجي التحية لفن الطرب الأصيل:
على الوتر الحنون خلعت شوقي
وهاج هواي في آه المغني
ففي النغم العميق إليك أمشي
وأسلك جانب الوتر المرن