الراصد لحال طلابنا المبتعثين يدرك أننا أمام مجموعة منصرفة إلى درسها في الجامعة، والتواصل فقط مع من يرتادون المساجد المحيطة بمقراتهم، والانخراط في الأنشطة الدعوية، وإما مع ركب المجموعة التي انكفأت حول نفسها بتمضية أوقات فراغها في الذهاب إلى المطاعم، ودور السينما، والتحلق حول موائد الكبسات، ولعب الورق. وهناك فئة
ثالثة أخرى من المبتعثين انطوت على نفسها داخل المجتمع اللهوي غير البريء. وإلى جانب هذه الفئات الثلاث نجد قلة من أولئك الذين سعوا بقوة للانخراط في مجتمع الابتعاث الذي حطوا رحالهم فيه في توزان منضبط يكبرون عليه. ولايمكن في خضم هذا السرد تغافل الفئة الخامسة من المبتعثين المندفعة من دون حساب لتبني النمط المعيشي لمجتمع البعثة بكل معطياته من دون تمحيص وتروي في محاولة لاستقطاب المفيد والنأي بنفسها عما سواه.
وفي ظني أن انكفاء وتقوقع النسبة الأكبر من المبتعثين - كما أشارت إحدى الدراسات إلى أن 75% من المبتعثين في المملكة المتحدة عازفين عن الاندماج في المجتمع الإنجليزي -حول ذاواتها يعود لأسباب عدة بارزة للعيان، وأخرى غير منظورة. السبب الأول يعود إلى أن مبتعثينا لم يعدوا ليكونوا متفاعلين أكاديمياً، وثقافياً، واجتماعياً، وسياسياً مع محيطهم الجديد، بل على العكس من ذلك نجد أننا أثناء دوة الابتعاث التوعوية ذات الطابع الشمولي قمنا بغرس فضيلة تحاشي المجتمع المنحل والفاسد والانصراف فقط لمهمتنا الدراسية من دون تزويدهم بمهارات التأقلم الاجتماعي، والتكيف الشخصي، والاندماج الثقافي، والتفاعل المعرفي، وهذا أدى إلى تعزيز ثقافة الانكفاء والتقوقع حول الذات.
والبعد الثاني غير المنظور يعود إلى التركيبة الذهينية التي تربى ونشأ في أحضانها الفرد السعودي. يلاحظ المتابع أنًّ علاقات السعوديين العائلية على وجه التحديد، والعلاقات الاجتماعية بشكل عام، تخضع لاعتبارات اجتماعية، وكذلك للتركيبة العائلية المستمدة من طبيعة النظام القبلي المنظِّم لأطر وطبيعة العلاقات الاجتماعية على المستوى الفردي والعائلي. ومن هنا فالمرء ليس بحاجة إلى إعمال النظر ملياً ليقرر إتيان العائلة في المقام الأول في المنظور الاجتماعي السعودي، بل إنها تعتبر - إن صح التعبير - المؤسسة الاجتماعية الأولى؛ لذا نجد الفرد السعودي يُعِدّ عائلته البُعد الأوحد الذي يستمد منه هويته، ووضعه، أو مكانته الاجتماعية.وهذا يستدعي القول إنًّ أفراد الأُسر تعمل على مد جسور التواصل الاجتماعي فقط مع أفراد تلك الأُسر التي تشاركها في العادات، والتقاليد، وروابط القربى، والنمط المعيشي الذي تحياه، وتفضلها على غيرها. وهذا بدوره يفسر ويؤسس لخلق أساس قوي يحد من إقامة علاقات اجتماعية بين أفراد المجتمع السعودي ونظرائهم من أبناء الأمم الأخرى.
وبجانب هذا التفسير الاجتماعي يمكن كذلك إضافة سبب آخر، مرده إلى أن هناك أفراداً من المجتمع السعودي يتخذون موقفاً متحفظاً تجاه الانفتاح الكامل، ومد جسور تواصل مع من لهم خلفيات ثقافية ودينية مختلفة عنهم، كما عزز ذلك أيضاً الجرعات التربوية التي دعت في بعض دعواتها إلى تجاهل الثقافات والديانات الأخرى؛ ما قاد في النهاية إلى عدم تقبُّل، بل وبعبارة أكثر دقة عدم قدرة الفرد السعودي على التواصل مع الآخر.
وهكذا نجد أن عدم التأهيل المسبق للطالب المبتعث، وانتفاء المعالجة الإيجابية لذهينة المبتعث السعودي تجاه الآخر جعلته أثناء فترة الابتعاث بعيداً عن تفاعلات المجتمعات التي يدرس فيها سواء الثقافية، أو السياسية، أو تلك التي تخص التحولات الاجتماعية؛ نظراً لعدم اندماجه واختلاطه بالمجتمع المحيط به، وعدم وجود قنوات تواصل بينه وبين تلك المجتمعات، واحجامه عن التواصل مع مؤسسات الرأي العام، والهيئات المدنية، وصناع القرار، ومؤسسات الفكر، والدراسات، والمؤسسات الإعلامية، والمراكز البحثية، ومؤسسات المجتمع المدني، بل إننا نجد أنه ليس هناك تواصل بين الطالب السعودي وبين علماء ومفكري تخصصه الذين ربما يكون بعضهم ممن تتولى تدريسه أثناء فترة ابتعاثه، ومثلها في ذلك عدم انخراطه في أنشطة الأندية الطلابية في جامعته يستوي في ذلك الثقافية، والعلمية، وحتى الترفيهية، وغيرها كثير والتي جميعها يمكن أن ينظر لها على أنها جامعات بذاتها تزود المبتعث بخبرات ومهارات متنوعة.
وهذه الحالة قللت من فرص تعميق الفهم والوعي بالعمل السياسي والثقافي والاجتماعي لدى المبتعث السعودي ما جعله غير قادر على قيادة حوارات مع مؤسسات الدول التي يدرس فيها، وتكوين مهارات يمكن توظيفها لإحداث تغييرات في وجهات النظر العامة تجاه القضايا التي تخص المملكة تحديداً والعالمين العربي والإسلامي بشكل عام. كما أن وجودها كحالة حدت من إزالة حاجز الهوة والاطلاع على حقيقة المجتمع السعودي؛ لأنه ليس هناك جسور تواصل بين الطلبة وأساتذتهم ومحيطهم. وذلك كله يعود إلى عدم وجود برنامج يُعدّ الطلاب المبتعثين ويهيئهم لاستثمار وجودهم على رأس البعثة لاقتناص الفرص، ومحاولة تحقيق الاستفادة القصوى من أجل الاستزادة من تلك المعطيات، ومن ثم ترك آثار اجتماعية، وسياسية، وفكرية في مجتمعات بعثاتهم، أو على الأقل في حرم جامعته التي ينتمي إليها.
وأهمية موضوع اندماج المبتعث مع بيئة الابتعاث يكمن في أنًّ الطموح لا يتوقف عند باب التحصيل العلمي المجرد الذي يمكن أن يناله المبتعث من جراء الالتحاق بجامعة خارج الوطن، بل نريد المبتعث يعود إلينا متسلحاً بقدرة على فهم الآخر، وقد اكتسب طرق وأساليب التحاور معه، وذا مقدرة على التقاط مظان الاستفادة مما لدى أبناء الأمم الأخرى من الأمور الإيجابية على مختلف الأصعدة. وأن يعود لنا أيضاً بأفق فكري منفتح، وقدرة أكبر على التفاعل والتآلف الحضاري، ولايقل عن ذلك قدرته على التعمق في البيئات الثقافية للأمم الأخرى، وانحسار جاذبية إصداره لأحكام مطلقة على ثقافات الآخرين. ومن هنا تبدو الحاجة ملحة لرفع وعي المبتعث بأهمية التمازج مع بيئات ابتعاثهم، وتهيئته كي يكون جزءا طبيعيا ومتفاعلاً مع مجتمع بعثته، وإيجاد برامج تدريبية محكمة البناء تساهم في صقل مهارات الاندماج، والمشاركة الإيجابية في محط رحال المبتعث، والتعزيز لديه من ثقافة التعايش المجتمعي خارج نطاق أفقه الأسري، أوحتى المجتمعي المحدود في بلاد الابتعاث. وإلى جانب ذلك هناك حاجة إلى القيام بدراسات ميدانية من أجل دراسة العوامل المؤثرة و المشاكل التي تعيق اندماج وتفاعل المبتعث السعودي مع بيئة الابتعاث.
الابتعاث ليس فقط شهادة علمية بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وإنما هو تجربة تبادل ثقافي وحضاري، وتفاعل أنساني لا يجب في كل الأحوال ألاّ يتوقف عند محطة التحصيل العلمي فحسب. ومتى ما تخطى هذا البعد المحدود الأفق انفك مبتعثونا من الدوران في الدائرة المغلقة الضيقة.