كثيرٌ من المناطق والمدن والمحافظات يشتد لهثها نحو مضمار السياحة بمفهومة التقليدي المعروف وهو حق مشروع، بل محمود.
وهو اصطفاف ذهني في صنع السياحة في بلادنا المليء بمواطنها وأردافها إلا أن الملفت حقاً أن تنزع مدينة أو محافظة نحو سياحة جديدة مكملة بذلك المفهوم الأوسع والأشمل لها.
أجل أن تنبري مدينة نحو مهرجان ثقافي فهذا أمر يستحق الوقوف والتأمل.
فالثقافة بمصطلحها ومحورها النخبوي قد لا تحظى بتلك الهالة المصاحبة للمهرجانات السياحية الأخرى التي بلا شك سوف تستقطب جمهوراً أكبر وحشداً أعظم.
لكن «عنيزة» بحراكها الثقافي القديم والممتد والمتواصل ومحضنها الثقافي الأبرز وقواطر الشعراء والأدباء والمثقفين الذين مشوا على رباها ونهلوا من فيحائها ليس غريباً أن تبتدع هذه السنّة الحسنة بإقامة مهرجان ثقافي سنوي متنوع.
كما أن الإشادة تمتد ابتداء من الفكرة ثم الاستمرار والتواصل، بل المدهش هو ذلكم الحشد الرائع من النشاط الثقافي طيلة أيام المهرجان السنوي.
لقد قُدر لي أن أطلع على مضامين وفعاليات الأسابيع الماضية للسنوات الثلاث الفائتة، وقد دهشت بحق من ذلكم التنوع المتجدد لكن الدهشة سرعان ما تندفع حين يعلم المتابع والقارئ والمشاهد للفعاليات أنها منبثقة من ذلكم الصرح الثقافي الرائع الذي قصته قصة وفاء مدهشة قام بها تلاميذ أبرار لأستاذهم.
إنها قصة مركز ابن صالح الثقافي الذي امتزج فيه التعليمي بالثقافي في معادلة متداخلة بتجاذبها الاجتماعي كذلك.
إن المعطيات الثقافية لا تنال بالتمني والاستحواذ الشفهي، بل تتبع كذلك بمديد من العطاء الفعّال والبذل الملموس الذي يشعر به المثقف.
لم يكتفِ القائمون على مركز ابن صالح الذي هو بالأصل اجتماعي النسب والولادة.
لكن سرعان ما تشكل خلقاً إلى بنية حديثة مكتملة حسناء قوامها الهموم الثلاثة الثقافي والاجتماعي والتعليمي.
وقديماً قال علماء الأصول: «الأمور بمقاصدها».
لم يكن همّ أولئك النفر الأنقياء والأوفياء من تلاميذ الأستاذ المعلم صالح بن صالح أن يقيموا ويشيدوا بناء يتربع على رابية من فيحاء عنيزة ليتناقل الناس حسن بنائه وجميل تصميمه وسرعة إنجازه.
لكن النية المضمرة لديهم والله أعلم أن يتحول إلى منارة إشعاع فكري وثقافي وتعليمي وتربوي واجتماعي.
كما هو صالح بن صالح «رحمه الله».
لقد حاولت أن استجمع شيئاً من قصة الحكاية وحكاية القصة لذلكم المعلم اليتيم الذي تحول من بوابة ملقن ومعلم يصطف مع طلابه على حصير موجع إلى رمز ثقافي يتغنى كل معلم بسيرته وعمله.
قرأت صفحات من حياته واستمتعت بتلك الصور الدقيقة التي سردها معالي شيخنا محمد بن ناصر العبودي وهو يتحدث عن هذا التربوي في كتابة الذي سوف يصدر حديثاً «معجم أسر عنيزة».
فابتدأه بقصة صالح وعبد المحسن التوأم منذ ولادتهما من أمهما العنيزية وأبوهما القادم من المجمعة ثم رحلات المعلم والأستاذ صالح إلى الكويت والبصرة والبحرين ليعود محملاً بأرتال من العلم والثقافة أثقلت كاهله يلاحقه همّ ليفرغ رغبته في حقن تلك الأحمال في كنف أبناء مدينته «عنيزة» التي ولد في رباها وترعرع في ثناياها.
لقد أيقن القائمون على المهرجان أن الهدف من الثقافة ليس هو الإعداد لمائدة اتفاق في شتى التفاصيل الثقافية، ولكنها دعوة للائتلاف الأخلاقي لا الاتفاق النصي للفكر والفعل والثقافة.
ومن هنا بدأت تلك المساحة الواسعة من المشاركة التي كشفت علو الذوق وسعه الأفق بعيداً عن الأطر التصنيفية المقززة التي شطحت بالمثقف ابتداءً. ولعل في سابقة مهرجان عنيزة الثقافي مفخراً لذوي الهمم الفكرية أن يقتفوا الأثر ويستفيدوا من التجربة. وظاهرة التكريم في المهرجان تأصيل وتأكيد على اللبنة الأولى والحجر الأم لذلكم المركز الذي قام على فكرة التكريم لرائد التعليم هناك الأستاذ صالح بن صالح.
كما أن من المؤكد أيضاً أن ظاهرة إيجاد صيغ توافقية تصالحية جديدة حميدة بين الثقافة والتعليم والجوانب الاجتماعية هامة في هذا الوقت تحديداً، حيث نأى كل فريق بذاته فانكفأت المفاهيم وبدا الإعراض تجاه التحاور فيما بينهم.
أجزم بحق أن تجربة مركز ابن صالح بمد ذراعه الثقافي في هذا المهرجان سوف يرسم خريطة جديدة للمؤسسات الاجتماعية لدينا حين تتحوّل من مجرد قاعة للتدريب إلى فضاء أرحب للمناقشة في المجتمع.
كما أن غرس قيم الوفاء عن مواكب التكريم هو تأكيد على الالتفاف المجتمعي للمحتفى به والمكرم.
من المهم الأخذ بتجربة مهرجان عنيزة مأخذ الجد من قِبل المسئولين عن السياحة في بلدنا خصوصاً ونحن أمام مفهوم جديد للمهرجانات يتمثّل في صنع الرضا والابتسامة ليس في وجوه الأطفال فحسب، بل حتى في محيا أولئك المثقفين الذين طالما اكفهرت وجوههم غضباً وحنقاً من التهميش والتواري من الجهات عن المثقف إبداعاً واحتفاء وتكريماً.