- بين آخر حجة قمتُ بها عام 1984م وحجة هذا العام 2013م «تسعة وعشرون عاماً» كنتُ حينها شاباً لا يتجاوز عمري الثامنة والعشرين، وكانت الحكومة السعودية قد بدأت آنذاك ببناء بعض المشاريع في الحرمين الشريفين والأماكن المقدسة.. كما كان عدد حجاج الداخل والخارج لا يتجاوز الـ800 ألف وقد يقتربون من المليون فحسب.
- ثم حدثت خلال العقود الثلاثة الماضية تغييرات عديدة وظل يأتي موسم الحج كل عام بأوضاع وظروف جديدة.. بما في ذلك زيادة الحجيج.. ليتجاوز خلال الأعوام القليلة الماضية ثلاثة ملايين.. باستثناء هذا العام الذي تجاوز المليونين فحسب! لتقليص العدد من الداخل والخارج بسبب توسعة المطاف.
- وكان لا بُد من مواكبة كثرة الحجاج والمعتمرين والزوار بالقيام بتوسعات ومشاريع ضخمة على مدار العام في الحرمين الشريفين والأماكن المقدسة.
- لكنني رغم زياراتي المتعددة لمكة المكرمة والمدينة المنورة.. لم أتوقع ما وصل اليه حجم تلك المشاريع المتعددة والمتنوعة.. والتي تتمثل ببنية تحتية وتوسعة استثنائية للحرمين الشريفين ولكل الأماكن المقدسة بجانب تطوير المناطق المحيطة بالحرمين الشريفين.. وصرف من لا يخاف الفقر على كل المشاعر المقدسة خاصة التي يحدث بها الزحام أثناء موسم الحج كما هو حال تطوير مواقع الجمرات الثلاث.. وعبر بناء عدة أدوار بقالب هندسي رائع، إضافة إلى مئات الجسور والأنفاق الشعاعية التي تمثل إنجازاً هندسياً رائعاً.. وتطوير المواصلات ووسائل النقل العام.. وغير ذلك من المشاريع التي عايشتها على الطبيعة هذا العام والتي تظل تقام على مدار العام كما تأكد لي.
- ثم.. وهو الأهم مما سبق.. تأمين طرق الحج وحماية الحجيج.. حيث كثافة الانتشار الأمني بكل المشاعر المقدسة والتي تساهم بنقل الحجيج من مشعر إلى آخر بكل سهولة ويُسر.. مع ما يصاحب ذلك من تخطيط وتنظيم لتسيير الحركة.. ليمثل ذلك كله مناخاً آمناً للحجيج. وكذلك الرعاية الصحية لكل الحجاج ومعالجتهم بكل المستشفيات الحكومية في مكة المكرمة والمدينة المنورة والأماكن المقدسة وإجراء بعض العمليات الجراحية لمن يحتاج لها من الحجيج دون أي مقابل.. وهو ما حدث لكاتب هذه الأحرف بمستشفى النور بمكة المكرمة ومستشفى مِنى إثر وعكة صحية طارئة.
- إلى جانب تأمين المأكل والمشرب لأكثر من مليوني حاج وبأسعار في متناول الجميع.
- كل هذه الأعمال التي أوجزتها هنا والتي هي بمثابة غيض من فيض بقدر ما تؤكد صحة النوايا في الأداء.. بقدر ما تؤكد أيضاً الشعور بالمسؤولية التي لابد من القيام بها، باعتبار ذلك واجباً دينياً وتشريفاً إلهياً للحكومة السعودية التي تقوم على خدمة أكثر من مليوني حاج.. والذين يتواجدون بمكان واحد وبوقت واحد.. وينتقلون خلال فترة زمنية قصيرة من مشعر إلى آخر.. دون مضايقة ودون ما يعكر الصفو أو يخل بالأمن العام.. وهو ما يعد بمثابة تحدٍ استثنائي للحكومة السعودية.. وأحسب أنها نجحت في هذا التحدي بفضل الله ثم بفضل صدق النوايا والرغبة في خدمة الحجيج.
- ولابد من الإنصاف والإجماع.. والاعتراف بحقيقة الدور السعودي الجلي في خدمة الحرمين الشريفين والأماكن المقدسة بجانب خدمة الحجيج والمعتمرين والزوار بوجه عام، والذين مهما أنفقوا أثناء تواجدهم لأداء الحج أو العمرة فإن ذلك قد لا يساوي ربع الإنفاق المستمر والدائم الذي تقوم به حكومة المملكة العربية السعودية على الحرمين الشريفين والأماكن المقدسة.. ولا أخَال أني أتيت بهذا بجديد.
- كان لابد من التذكير بما سبق وبكل إيجاز ممكن ولو من باب المقارنة بين ما كانت عليه تلك المشاريع والبنية التحتية في المشاعر المقدسة عام 1984م وما باتت عليه اليوم.
- وعودة إلى انطباعاتي الخاصة عن أداء الحج والتواجد في كل المشاعر المقدسة هذا العام.. فلقد كان المقصد الأول هو الوصول إلى الحرم المكي الشريف لأداء طواف وسعي العمرة.. لقد وقفت ملياً أمام الكعبة المشرفة لتعود بي الذكريات إلى كل ما مرت به الانسانية من وقائع وأحداث منذ البداية التي لا يعرف كنهها عدا صاحب البيت العتيق رب العزة والجلال.. مروراً بمجمل مجريات الأحداث، خاصةً منذ انطلاق رسالة الإسلام الخالدة.. التي غيرت مجرى الإنسانية كلها.
- وتوفقتُ بعد جهدٍ جهيد بتقبيل الحجر الأسود الذي هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ما معناه : «الحجر الأسود يمين الله عزّ وجل في الأرض يصافح به خلقه» هذا الحجر الذي وضعه سيد الخلق بيديه الشريفتين حيث هو الآن.. بعد توافق وتفادي فتنة أوشكت أن تحدث لينال الجميع شرف المساهمة بفضل الله ثم بفضل حكمة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام.
- وعرجتُ على ماء زمزم الذي منذ أن فجره الله من الصخر ظل ولا يزال وسيظل حتى يرث الله الأرض بما ومن عليها بمثابة معجزة يستحيل على أمثالنا معرفة كنهها وأسرارها.
- وأثناء أداء السعي بين الصفا والمروة.. تذكرتُ حادثة السيدة هاجر زوجة الخليل إبراهيم مع وليدها إسماعيل. حينما ظلت تبحث عن الماء بين الصفا والمروة وهي مأخوذة بعاطفة الشفقة بطفلها الصغير.. لتدركها عناية الله بنبع ماء زمزم.
وفي يوم التاسع من ذي الحجة - يوم الحج الأكبر - يوم الوقوف بعرفة.. يقف الحاج بنفس المكان الذي وقف فيه سيدنا رسول الله قبل أكثر من أربعة عشر قرناً.. ليمثل الوقوف مكاشفة جلية للذات.. ومراجعة حتمية للعمل أكان حسناً أم سيئاً. كما تصفو في الوقوف النفس وتحس بقربها من خالقها فيصبح الحاج مجرد فرد من ملايين.. وكل واحد يعتقد جازماً ان الله يسمع دعاءه.. بقدر ما يسمع لدعاء كل حاج، فالكل يرفع يديه إلى السماء.. والكل تصفو فيهم الأرواح وتذوب الفوارق وتتصالح القلوب وتتعانق النفوس.. هؤلاء الحجيج الذين جاؤوا من كل فجٍ عميق ليتجردوا من الفوارق والألقاب والمسميات تختلف لغاتهم ولهجاتهم.. وتتوحد كلها على تلبية نداء الله.. «لبيك اللهم لبيك».. وهم بلباس واحد وشعار واحد وتوجه واحد.. فيكتشف أحدنا جوهر العقيدة التي هي سبب هذا الجمع الموحد عرضاً وجوهراً.. العقيدة التي جمعتهم وأذابت عنهم العصبية الجاهلية.
- ليصبح الإسلام وحده هو النسب والوطن والجنس والانتماء، فالكل على صعيد عرفات مجرد من كل شيء عدا الانتماء الواحد للاسلام، فلا مكان للمذهبية والعرقية ولا للحقد والكراهية والبغضاء.
- ولأن الإيمان بعرفات يزيد حتماً.. وتتذوق الأرواح حلاوة الرضا، فقد دعوتُ الله مخلصاً أن ينقذ اليمن من كيد أعدائه وجهل أبنائه وعدم مصداقية معظم علمائه وممن لا يزالون يتاجرون بمكانه ومكانته من المنتمين اليه عرضا لا جوهرا، وبعضهم ممن لا يزالون يحكمون باسمه ويترزقون بكرامته ممن لا يستطيعون أن يروا أبعد من أنوفهم وذواتهم.
- كما دعوت لكل من أوصاني بعضهم بالاسم وبعضهم بغير الاسم.. بل إن عظمة وروعة مشهد عرفات دفعتني لأن أدعو للجميع.
- وتابعت بصورة غير مباشرة خطبتي يوم عرفات التي ألقاها مفتي عام السعودية، وكانت الجملة التي جذبتني في خطبتيه هي مخاطبته لقادة وزعماء الدول العربية والاسلامية حينما قال بالنص (لا تضيقوا على شعوبكم أو تسومونهم سوء العذاب أو تهينوا كرامتهم).. إلخ.. ولعمري انه بهذه الجملة انما كان يخاطب قادة من كانوا يحكمون ما يسمى بدول الربيع العربي ثم مخاطبة غيرهم ممن يجب عليهم أخذ الدروس والعبر.
- وقبل النفير من عرفة، قابلتُ صدفة العزيز - محمد عقلان - مدير عام الحج والعمرة بوزارة الاوقاف الأسبق، الذي نجى بجلده منذ سنوات حينما غادر اليمن الى مكة المكرمة للعمل في مجال خدمة الحجاج والمعتمرين ليصبح خلال سنوات قلائل من أهم المستثمرين في هذا المجال اليوم.
- وجاء وقت النفير من عرفات الى مزدلفة، وفي مشهد ليس أروع منه عدا ذلك التجمع الذي يتحرك بوقت واحد ونحو مكان واحد، ورغم التعب والارهاق إلا أنني نمتُ بمزدلفة ساعة او ساعتين كانتا بمثابة نومة الهادئ المطمئن لكل ما ومن حوله.
- ثم.. في منى.. وفي المنطقة المخصصة للحجاج اليمنيين، وتحديداً بمخيم تابع لوكالة (نبراس) التي تقوم ممثلة بمديرها محمد المعلم بدور فاعل ومشهود بما في ذلك استقبال بعض كبار الحجاج وغيرهم ممن يحصلون على فيز المجاملة ليمثلون عبئاً مضاعفاً على بعض وكالات الحج والعمرة، وكاتب هذه الأحرف أحدهم، وفي مقدمتها وكالة (نبراس) التي تقوم بعمل مضاعف حسب مشاهدتي دون منٍّ ولا أذىً، وإن كانت تفتقر ربما إلى فن الدعاية والتسويق الذي تمتاز به بعض الوكالات الأخرى.
- أقول.. بهذا المخيم الذي مكثتُ فيه بفضل الله ثم بفضل العزيز محمد المعلم والنسيب جلال.. اختلطتُ ببعض الحجاج اليمنيين ومنهم إمام المخيم عماد الفقيه وطبيب البعثة الدكتور صادق الشجاع الذي صرف لي علاجاً لبعض الأوجاع، افادني حقاً.. لأكتشف صدق مقولة: (قد يوجد في النهر ما لايوجد في البحر).
- وكم كانت سعادتي بذلك التوحد والتآلف غير المعهود بين بعض اليمنيين مع بعضهم البعض داخل ذلك المخيم وغيره، فتمنيتُ لأن يظل ذلك السلوك الاستثنائي يصاحب أصحابه داخل الوطن.. بل كم يتمنى أمثالي وقد تحلل من إحرامه أن يظل مُحرماً بحياته العامة عبر سلامة قلبه ولسانه ويديه، إذ لا يمكن أن يكون الحج مبروراً الا اذا عاد الحاج بحياة جديدة خالية من الشوائب ومن الافعال غير السوية.
- وخلال قيامي برمي الجمرات، تذكرتُ قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، حينما ظهر له الشيطان بتلك الأماكن الثلاثة ليصرفه عن امتثاله لله وطاعته، بجانب ان القيام بهذا الرمي إنما يعتبر بمثابة تجديد الصلة بالملة الحنفية.
- واثناء التجول بأحد شوارع مِنى.. قابلتُ صدفة أحد كبار موظفي وزارة الحج السعودية والذي كان زميل دراسة في بداية الثمانينات من القرن المنصرم بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة.. ليتطرق الحديث فيما بيننا إلى أعداد الحجاج الذي يزداد عاماً بعد عام، ثم يؤكد لي بحكم عمله ان ثلث الحجاج ان لم يكن أكثر هم في العادة ممن قد أدوا مناسك الحج والعمرة غير مرة، سواءً من حجاج الداخل او الخارج!.
- فاكتشفتُ مدى سهولة حج هذا العام بسبب تقليص حجاج الداخل والخارج قياساً لأعدادهم خلال الاعوام القليلة الماضية، كما تأكد لي.. بجانب ضخامة المشاريع والبنية التحتية في الاماكن المقدسة التي تأتي من بعض أهدافها بسبب ازدياد الحجاج والمعتمرين والزوار عاماً بعد عام، وهو ما سيظل حتماً، مما قد يعطي نتائج عكسية للجميع. ولذا فإن كاتب هذه الأحرف يرى أن الحلول التي يجب أن تنفذ أمام ازدياد الحجيج هو عدم منح تأشيرة الحج والعمرة لمن قد منح ذلك قبلاً.
- فلقد أجمع علماء المسلمين على أن الحج لا يتكرر، وأنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، وهو ما لا يجهله القائمون على هذه الامور سواء في السعودية أو في غيرها.
- لقد حبى الله اليمنيين منذ عام 2005م بسفير يمثل وطناً هو الاقرب اليهم عقيدةً وجواراً ومصيراً وقواسم مشتركة عديدة، أعني سعادة سفير المملكة العربية السعودية بصنعاء الأستاذ/ علي محمد الحمدان، الذي تتنوع علاقاته بكل فئات الشعب اليمني خاصة رجال الفكر والصحافة، وهو ما قد يميزه عمن قبله حسب علمي، لكن هذه العلاقة قد تعرضه أحياناً لبعض الاحراجات، خاصة حينما يتقدم اليه البعض بطلب تأشيرة حج أو عمرة - مجاملة -.
- ولذا.. كم يتمنى أمثالي أن يقتصر منح تأشيرة الحج والعمرة - المجاملة - إن كان ولا بد.. على من لم يُمنح قبلاً - سواء أكان يحمل جوازاً أحمر أو أخضر أو أزرق!.
- وهو ما يجب أن ينطبق على وزارة الحج والأوقاف.. وما طبق هذا العام حسب ما اخبرني به وزير الاوقاف من أن الوزارة رفضت قبول المتقدم ان كان قد حج الا إذا مرت عليه ثلاثة أعوام، فإن ذلك غير كافٍ؛ إذ يجب عدم إتاحة الفرصة لمن قد أدى فريضة الحج والعمرة، وإن كان ولا بد فلتكن الفترة بعشر سنوات على الأقل، فخلال ذلك قد تحدث أمور ومستجدات جديدة، حتى تتاح الفرصة لمن لم يؤد فريضة الحج والعمرة.
- إن في رحلة الحج والعمرة دروس وعبر وائتلاف وتعارف بين أبناء الأمة الإسلامية، باعتبار ذلك تجمعاً ومؤتمراً إسلامياً استثنائياً يقام كل عام، وهو ما يدفع الحجيج الى استعراض ماضيهم الذي مثل نجاحاً في كل ميادين الحياة، بما في ذلك هداية البشر بفضل التمسك بقيم الاسلام، بينما اليوم وقد نبذنا ذلك وراء ظهورنا يزداد التفرق والخصام بين ابناء الدين الواحد ويحيط بنا الأعداء والمكائد المحدقة بنا، مما يجعل الحجيج وهم يؤدون مشاعر حجهم بين الفرح بما يقومون به وبين الحزن حينما يستعرضون أسوأ مراحل الانحطاط التي تمر بها شعوبهم العربية والاسلامية اليوم.
- وفي نفس الوقت، فإن ما يقوم به الحاج والمعتمر من اعمال ومهام، حيث الطواف والسعي ورمي الجمرات وكشف البدَن للشمس والوقوف بعرفات في ظل حرارتها وغيرها من الاعمال التي قد لا يهتدي العقل الى معانيها، إنما تعلِّم هذه الاعمال عقل المسلم بالتسليم المطلق للاحكام الربانية والامتثال لأوامر الله انقياداً وتعبداً ورقاً، حتى ولو لم يدرك أحدنا سر ما يقوم به من أعمال ومهام.
- إنها ذكريات ومشاهد، رأيتُ ايجازها بهذه السطور، والتي لا يقابلها المسلم الا عند أدائه فريضة الحج والعمرة، ليستفيد منها في حياته الخاصة والعامة، فالحج بما يمثل من معجزات ودروس وعبر وذكريات روحية يظل حتماً في الوجدان والشعور، ولله الأمر من قبل ومن بعد.