سوق العمل ليس عمالة وإقامات ومخالفات إقامات، وتخلف فقط، سوق العمل أكبر وأعم من ذلك وتنظيمه يتطلب جهداً أكبر بكثير من إقامة الحواجز، ومداهمة المنشآت وغير ذلك، بالرغم من أن ضبط العمالة الوافدة وتنظيمها بما يكفل حقوق المواطن وحقوقها يعد أمراً مهماً جداً.
ثم أن تنظيم العمالة كان يجب أن يتوخى عدم الإضرار بالمواطن بشكل مباشر أو غير مباشر نتيجة للتقليص المفاجئ لعدد العمالة؛ فالمواطن متوسط الدخل مثلا يستطيع بالكاد أن يبني منزل العمر بعد سنوات طويلة من التوفير والاقتصاد، وعندما يتضاعف سعر كلفة البناء كما هو اليوم نتيجة للتنظيم المتأخر للعمالة، وتكون الجهات المسئولة عن ضبط العمالة غير قادرة على ضبط الأسعار في السوق، تكون هذه الجهة قد أضرت بالمواطن ذاته التي تريد أن تحميه أو تفيده من التنظيم.
وسوق العمل في المملكة وللأسف تعمه الفوضى ليس فقط من ناحية انتظام إقامة العمال فقط ولكن من نواحي التنظيم، والتعاقد، والمواصفات، والتقاضي إلى آخر ذلك من الأمور التي تحكم السوق. فكثير من المهن مهن معتادة ومعروفة في السوق من شراء مواد البناء إلى إنشاء أساس البناء، أو ما يسمى بالعظم، والتشطيب النهائي. وبالرغم من الحجم الهائل لسوق البناء لدينا إلا أنه لم تبذل أي جهة رسمية أو غير رسمية جهوداً كافية لتنظيمه، وترك لينظم نفسه بنفسه. فلا توجد مواصفات قياسية لأي مهنة متعلقة بالبناء، ولا عقود موحدة للعمالة السائبة التي كل منها يكتب عقداً كيفما يريد. بل إن مؤسسات بناء ومؤسسات خدمات بناء كبرى ومعروفة تعتمد عقود إذعان مجحفة بالطريقة التي تراها لتفرضها على المواطن، وليس للمواطن من حيلة إلا أن يذعن نتيجة لعدم وجود تنظيمات تحميه.
كما أنه لا يوجد نظام يتحقق من كفاءات العاملين في أي قطاع من قطاع البناء لا من حيث التأهيل ولا الخبرة. وعادة ما يفد العامل بلا خبرة ويعمل في البداية حارسا أو سائق شاحنة ثم يتدرج حتى يصبح مقاولاً يعمل بعشرات الملايين من الريالات بعد أن يكون تعلم في رؤوس المواطنين وبكد عرقهم وتوفير عمرهم. وهو يدور بدفتر عقود باسم مؤسسات المقاولات التي تعمل تحت سجل مواطن أو حتى مواطنة لا تعرف عن نشاطه شيئا! وتنشط العمالة غير المدربة في قطاعات خطيرة لا يعمل بها عادة إلا مهندسون إنشائيون، أو كهربائيون متخصصون. ولذا يسقط في يد الآلاف من شبابنا الذين نخرجهم بأفضل المؤهلات في معاهدنا المهنية عندما يجدون أنفسهم أمام منافسة غير عادلة في سوق كالغابة مليء بالمتطفلين على مهنهم، ومقاولين متعودين على جميع أساليب الغش والخداع. وقد ذكر لي شاب فاضل يعمل في مجال التكييف أن المتطفلين على هذه المهنة ومنهم من يعمل بلا تدريب وتحت تستر موظفين حكوميين يعملون بسجلات مشبوهة وبأسماء زوجاتهم أو من يعولون. وبعضهم يعمل في جهات رقابية وللأسف. ولذا فلا نستغرب أخبار تصدع المباني وانتشار الحرائق التي نلحظها مؤخرا. ولولا هذه الفوضى الكاملة في هذه السوق لم تتخلف العمالة ولم تهرب من كفلائها، لأن التخلف والهروب مغريا في سوقنا.
فتصحيح السوق من حيث الإقامات والفيز فقط هي أسهل ما في أمر تنظيم هذه السوق. ورغم العدد الكبير لجامعاتنا ومؤسساتنا المهنية لم تكلف أي جهة أمر دراسة هذا السوق، وأساليب عمله ولا سبل تنظيمه، والإجراءات التي تتخذ أحيانا تكون وليدة قرارات لا تستند إلى تحليل أو معلومات، أو معرفة بمشاكل السوق الحقيقية. ولذا فقد بلغ الاستهتار من العمالة مبلغا أن العمالة أصبحت هي التي تدير العمالة في سوقنا، أي ظهرت لنا طبقة تشغل ما يشبه بشركات التنفيذ في سوقنا بعد أن كانت عمالة حرفية فيه، وهؤلاء وغيرهم لن يغير تنظيم الإقامات في أمرهم شيئاً.
وسوق البناء لدينا مقسم بحسب الجنسيات، كل جنسية تحتكر مواد بناء معينة أو خدماتها. وهم يحترمون حدود احتكار بعضهم البعض الآخر، ولا يكسرون أبدا القوانين العرفية المتفق عليها والتي برغم عدم وجود تشريعات لها أو جهة تنفيذية تطبقها إلا أنها تحترم أكثر من قوانين بعض الجهات الرسمية لدينا. فلو اختلف مواطن مع عامل فالأخير سيتركه ولن يجد من يكمل العمل إلا بشق الأنفس وبثمن مرتفع. وعندما يتعارف العاملون في قطاع على رفع السعر فالخبر ينتشر بسرعة البرق والجميع يحترم ذلك. وهم منظمون حتى ضد كفلائهم المتسترين عليهم فلا يعطونهم إلا نسبة ضئيلة من العقود يحددونها بالطريقة التي يرونها. وعندما يبدأ العامل العمل في موقع يضع عليه علامة يحترمها الآخرون ولا يدخلونه.
والعمالة تحترم طبقة واحدة من السعوديين فقط هم طبقة ما يسمى بالمشرفين على البناء، وهم مواطنون تكررت لديهم تجربة البناء وتعلموا بأسلوب التعلم من الأخطاء ويشرفون على المباني بنسبة من كلفتها النهائية، والعمالة تحترمهم فقط لأنهم يعرفون أسرار المهن وطرق التلاعب بها، ولكنهم وهذا هو الأهم يعملون كسماسرة غير مباشرين للعمالة يأتونها بأعمال جديدة ويمنعونها من التوقف أو التمتع بالإجازة الأسبوعية. ولذا فلهم الأولوية في التنفيذ عندما يكون للمقاول عشرات المواقع بعدد يسير من العاملين.
ثم يأتي الجزء الأهم في التنظيم وهو عدم وجود أي حد أدنى من الجودة في معايير التنفيذ، فلو وقعت عقدا لتركيب باب من الأبواب، على سبيل المثال، وحاولت التأكد من كل مواصفاته واتخذت كافة الاحتياطات لذلك، فقد تفاجأ بأن الباب ركب بالمقلوب، وعندما تعترض على ذلك يأتيك صاحب المؤسسة قائلا أنت المسئول لأنك لم تنص حرفيا في العقد على أي جهة يركب الباب!! وهذه ليست دعابة وإنما هي قصة حقيقية. وإذا عرفنا أن جميع مقاولينا ومؤسساتنا باستثناء تلك التي تعمل مع الدولة لا تنفذ المطلوب منها إلا بعد الحصول على دفعاتها مقدما، وهي منظمة بهذا الشأن تنظيم الساعة السويسرية، ولذا فإذا ركب لك بابا مقلوبا فإن أمامك خيارين، إما أن يصلح الباب، وخطأ العمالة على (كيسك) ومن حسابك أو توقف المؤسسة العمل وتأخذ دراهمها وتغادر، ثم تسمع العبارة المعتادة: (رح اشتك).
الجميع يعرف أن لا أحد يوقف مثل هذه الفوضى أو ينصف المواطن إلا بعد إجراءات إدارية وقضائية لا نهاية لها، تعرض بعد وقت طويل على قضاة لا علاقة لهم بأمورها من قريب أو بعيد، فيعينون من يخرج ليراجع العمل ويقرأ عقود الإذعان والمواصفات الملتبسة التي لا تخضع لمعايير محددة ثم تكون نسبة نجاح المواطن في كسب قضيته على من تلاعب به “ففتي ففتي” أي خمسين خمسين كما يقال. ولذا لا أحد يشتكي ولا أحد يقاضي ويسكت الناس عن حقوقهم ويحاولون تناسيها حتى بأسرع وقت حتى لا يصابون بالسكر والضغط أو ما هو أعظم من ذلك لا سمح الله. وقد كان أجدادنا أشطر منا بكثير في تنظيم المهن إذا كان لكل مهنة شيخ يعرف كل أمورها ويتقاضى أتعابه من أصحاب المهن أنفسهم، وعند الاختلاف على أمر ما يفصل شيخ المهنة في الأمر وتكون كلمته نافذة كالسيف لأنه يملك صلاحية إغلاق مقر صاحب المصلحة المخالف لمعايير المهنة وإيقاف صاحبها، وهو يقوم بحملات تفتيش من وقت لآخر للتأكد من صحة سير العمل وفق المواصفات. أما اليوم فأنت كما يقال لا تعرف من خصمك ومن يحميك.
والغريب أن المشاريع الحكومية الضخمة وخاصة تلك التي لا تخضع للمنافسة جففت السوق من العمالة وأسهمت في ارتفاع الأسعار ونشر الفوضى في السوق، وبما أنه لم يسمح لها أن تستقدم عمالة مدربة انعكس ذلك أيضا على سوء التنفيذ في الكثير منها. وربما تكون هذه أسوأ طفرة عمرانية شهدتها البلاد من حيث سوء تنفيذ المشاريع. أعان الله المواطن الذي يعاند الدهر من أجل بناء مسكن العمر.